تزايد الحديث في الآوانة الأخيرة عن هيلكة الدولة وتخفيض الدستوريين تمشياً مع سياسة التقشف التي أعلنتها الدولة منذ فترة، وعلى الرغم من أن هذه السياسية سبق وأن أعلنتها الدولة قبل التشكيل الوزاري الحالي، إلا أن تشكيل الحكومة الحالية كان مذهلاً وقتها، حيث إنه لم يكن كما توقع البعض بناءً على عزم الدولة تطبيق سياسة التقشف، وأن الحكومة القادمة ستكون رشيقة حسب ما تردد، لكنها في الواقع ذاته كانت مترهلة "وبدينة" حسبما وصفها السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، وبمثلما فاجأت قيادة الدولة الشعب السوداني المرة الأولى بتشكيل حكومة بدينة ومترهلة على عكس ما وعدت به. هل تمضي هذه المرة بذات الخطوة لتفاجئ الشعب بالإبقاء على الحكومة الحالية كما هي، بعد أن ارتفعت نبرتها عن هيكلة الدولة وتخفيض الدستورين، سيما أن البعض يذهب إلى أن الهيكلة المرتقبة لن تختلف كثيراً عن شكل الحكومة الحالية، ما يدلل على هذه الفرضية هو قول رئيس لجنة العمل والحسبة بالبرلمان الفاتح عز الدين لبرنامج "مؤتمر إذاعي" أمس من أن الحكومة الحالية ليست فيها شحوم لإزالتها وإنما تكسر من العظم، كما أنه استبعد تماماً أن يتم التخفيض إلى (15) وزيراً وفقما أشيع عبر الصحف. وكما علت بذلك مطالبات برلمانية، وقال عز الدين إن السودان بلد كبير وأن المشاركين في السلطة ممثلون لجهات بهذا البلد الكبير لا يمكن أقصاؤها من المشاركة. ومضافاً إلى قول عز الدين فإن الأمر اليوم بات مختلفاً، لجهة أن الحكومة الحالية تشمل عددا من الأحزاب بخلاف الحكومة السابقة التي تشكلت من حزب المؤتمر الوطني عقب الانتخابات التي احتكر نتيجتها لصالحه، فاليوم يشارك في الحكومة الحالية أحزاب تصل إلى (15) حزباً بمختلف وزنها الجماهيري وإن كان أغلبها لا قاعدة له ودرج تسميتها بأحزاب (الفكة)، بيد أن هنالك حزباً يختلف عنها قليلاً وهو الحزب الاتحادي الديومقراطي الأصل الذي شارك وفقاً لاتفاق محدد مع حزب المؤتمر الوطني، وبالتأكيد إنه لا يرضي نقصان حصته في السلطة، كما أنه ليس من الأحزاب التي يمكن أن تنزل إليها الأوامر من المؤتمر الوطني لتقبل منصاعة لرؤيته منفذة لأوامره، ولكن له قاعدة جماهيرية عريضة ترفض ذلك بل إنها لم تكن راغبة أصلاً في المشاركة في السلطة الحالية وبإمكانها الضغط على القيادة كي لا تقبل تنزلات جديدة، وما يعزز هذه الفرضية وجود قيادات اتحادية بارزة تقف إلى جانب طموحات وتطلعات الجماهير بينهم الناطق الرسمي باسم الحزب ومرشحه في الانتخابات الرئاسية الماضية حاتم السر، إلى جانب قيادات أخرى، وهو الأمر الذي يدركه قادة الوطني والدولة، وربما هو ما جعل القيادة تتأنى في إعلان القرار حتى اليوم لمزيد من الدراسة والتمحيص. وربما ذات الأمر الذي جعل رئيس لجنة الإدارة والعمل والحسبة بالبرلمان الفاتح عز الدين لا يخفي حيرته حول من سيخرج من هذه الأحزاب الخمسة عشر المشاركة بالحكومة الحالية، ويرى أن جميعها لها فكر سياسي وجماهير تريد أن تلبي تطلعاته عبر المشاركة في السلطة، لكنه عاد ليقول إن انتظار الحكومة ليس معناه خوفاً ولا وجلاً ينتابها من تلك الأحزاب يجعلها تتراجع عن قرار هيكلة الدولة وإنما الدولة ماضية سياساتها الرامية لخفض الدستورين، وأردف "لكن كيف نوازن بين هذه التطلعات للمشاركين في السلطة خصوصاً المشاركة لأجل سلام دارفور، فهؤلاء يمكن أن تنفق مليارات على السلام ولا تنفق مليماً على الحرب"، ومضى عز الدين مستصعباً أمر هيكلة الدولة أمام القيادة حينما وصف الحكومة الحالية بأن ليس فيها شحوم يمكن إزالتها ولكن التخفيض ينبغي أن يكون كسراً من العظم، رغم تأكيده أن هذا الكسر ستنتج عنه تشوهات في جسد الدولة، وتابع "ليس مطلقاً أن نقول إن التخفيض يتم بنسبة 30%، نشيل من وين؟ ما فيها شحوم تتم إزالتها، بل تكسر من العظم لكنه سيحدث تشوهات". لكنه أكد حتمية تقليص الوزارت رأسياً وافقياً عبر الإلغاء والدمج، وأشار إلى أن التخفيض ربما يصل إلى نسبة 45%، كما تلغي كثير من الامتيازات والمخصصات بينها سحب السيارات والإبقاء على واحدة فقط، وتقليص الوقود، على المستويين الاتحادي والولائي، ومضى الفاتح في حديثه كأنه ينفر عن الاستوزار واصفاً الوزارة بأنها أصبحت جحيما لا يطاق لأنه لا يوجد فيها مال، وأردف "الوزير سيأتي البرلمان ليسمع ما لا يرضه وقبله مطلوب أن يقنع مجلس الوزراء بخطته، هموم ثقيلة تضع على كاهل الوزير، الواقع أسوأ مما يتصور" وقال إن الوظيفة في الوزارة ليست محل راحة عقب سحب العديد من الامتيازات التي كان الوزير يرفل في نعيمها مسبقاً. بينما يرى المحلل السياسي صديق تاور أن الحكومة المؤتمر الوطني باعتباره الحزب الحاكم ماض في إنفاذ سياسة الهيكلة لأن ليس لديه مفر من ذلك، ويتوقع أن يضحي ببعض منسوبيه بجانب بعض الحلفاء، لكن هذا الأمر حسب تاور الذي تحدث ل (الأحدث) سيخلق صراعاً جديداً داخل الحكومة بين وزراء الشراكة وداخل المؤتمر الوطني بين أعضائه المتنافسين حول من سيخرج ومن سيبقى، صراع يراه تاور فقط ينتظر الإعلان عن السياسة الجديدة، ويتوقع أن يكون الصراع أشد ضراوة بين الضحايا والمستمرين في السلطة من أعضاء الوطني، ويرى أن الوطني اليوم في ورطة لأنه استقدم المتحالفين معه بناءً على الإغراءات والمناصب كما أسكت متلفتيه أبان الانتخابات ببندول نافع الشهير، ولكن اليوم ما عاد البندول يجدي حتى لأعضاء الحزب أنفسهم فما عساه فاعل مع الأحزاب التي استقدمها للمشاركة معه مقابل المناصب والمال. ومن المفارقات في الحكومة الحالية إنها جعلت في منصب واحد أكثر من مسؤول، وهو منصب وزير الدولة، حيث إن هذا المنصب في بعض الوزارت يسكن فيه شخصان عوضاً عن واحد، بين تلك الوزارت، "وزارة الخارجية، ووزارة النقل" وهي الخطوة التي لم تكن مسبوقة على مر الحكومات المتعاقبة على السودان، ورغم أن المنصب نفسه يعتبر مجرد ترضيات حسبما يقول ل (الأحداث) نائب برلماني فضل حجب اسمه، ويقول إن وزير الدولة في الوزارة لا يكون له كبير مهام يقوم بها وأن جميع ملفات الوزارة تكون بيد الوزير، بينما يكون وزير الدولة لا علم له عن كثير من الملفات، وأن المنصب يمنح له كشيء من الموازنات والترضيات. وبحسب إفادة البرلماني السابق ذكره، يصبح تسكين شخصين في منصب وزير الدولة بوزارة واحدة أمراً يتنافى مع سياسات التقسف التي تعلنها الدولة عبر الإعلام، إذ إنهما يتلقيان مخصصاتهما بالحوافز المعروفة مقابل لا شيء من العمل يقومان به. المطالبات بهيكلة الدولة وتخفيض الدستورين انطلقت من البرلمان، يوم أن حملت وزارة المالية ميزانية الدولة إلى هناك بغرض إجازتها، وكانت تحمل بين طياتها مقترحاً لرفع الدعم عن "البنزين"، لإنقاذ الميزانية من الانهيار حيث إنها فقدت 70% من إيراداتها بسبب انفصال الجنوب، قبل أن تأتي الطامة الكبرى بإيقاف الجنوب تصدير بتروله عبر الشمال، ولاحقاً احتلاله لهجليج آخر ما تبقى للشمال من حقول للبترول، وجميعها عوامل أوصلت الاقتصاد مرحلة مقلقة، قفز معها التضخم من 17% إلى ما فوق الثلاثين بالمائة، وسعر النقد الأجنبي من جنيهين ونصف إلى ما فوق الخمس جنيهات، لكن نواب البرلمان يومها رفضوا مقترح رفع الدعم بل إنهم طالبوا بهيكلة الدولة وتخفيض مخصصات الدستورين، ودفعت يومها النائبة عواطف الجعلي بمقترح تعديل قانون مخصصات الدستورين قبل إجازة الموازنة، وحصل المقترح على تأييد أغلبية النواب وفقاً لتوقيعات جمعت خارج القاعة قبل بدء الجلسة، لكن رئيس البرلمان أحمد إبراهيم الطاهر بكاريزمته استطاع أن يغير قناعات النواب فمرروا الموازنة قبل تعديل قانون المخصصات الدستورية.