من جيل الأمهات اللائي ارتحلن عن الدنيا. كتبتُ من قبل مقالات طويلة عن ثلاث منهن. هن خديجة عبدالرحمن يعقوب، وبتول صالح الشهيرة ببتول بت زينب، وزينب حسن النور أم نفيسة وآسيا علي نميري، وهن جميعاً (أم درمانيات)، وقد كُنّ نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه المرأة السودانية في ذلك الجيل الرائع للأمهات. وكُنّ ربات بيوت ليس أكثر لكنهن أديْن الدور على وجهه الأكمل وتفوّقت آسيا علي نميري في أنها كانت معلِّمة تخرّجت على طبشيرتها مئات السودانيات ممن أسهمن في الارتقاء بالمجتمع ونشر النور في سائر أرجاء القطر. ولقد اقتحمت الأستاذة آسيا مجال التعليم قبل نشأة مؤتمر الخريجين وظلت تؤدي دورها كمعلمة بكل إخلاص واتقان. وكان من رأي الوزير السابق محمد إدريس محمود أن يطلق اسمها على المدرسة التي أنشأها بودنوباوي هو وشقيقه بشرى إدريس محمود وعمه نورين محمود. وكان من رأينا نحن أن يُطلق اسمها على أحد شوارع ودنوباوي ولم يتحقق أيٍ من ذلك وقد ارتحلت عن الدنيا منذ بضعة أعوام. ثم ارتحلت عن الدنيا قبل أيام، ومن ودنوباوي أيضاً سيدة من جيل الشقيقات، أي من جيلنا نحن مواليد النصف الأول من الخمسينيات، وهي السيدة نجاة بشير نميري، ومثلهن أيضاً فقد كانت ربة منزل من فئة النجوم الخمس، وإنسانة فاضلة خيِّرة ذاكرة راكعة ساجدة صائمة قانتة متبتلة في محراب بيتها وأسرتها الكبيرة وجيرانها. وكانت ضاحكة في وقار، كريمة بلا حدود، واثقة من نفسها بلا غرور، وكان حضورهاً هو الأجمل والأقوى أينما حلّت وكان احترامها لنفسها وللآخرين والأخريات من سواطع شخصيتها وسلوكها. وكان في حياتها حزن جبّار عميق خرافي. ففي غمضة عين فقدت زوجها إلى الأبد بوفاته في حادث حركة، لكنها تماسكت وقادت المسيرة أمّاً وأستاذة وصديقة وأباً لأبنائها، إلى أن أوصلتهم إلى بر الأمان. وكان المأمول والمتوقع أن تستمتع بهذا الانتصار وسط أبنائها ومعهم وأن تعيش معهم عمراً طويلاً حافلاً بالمزيد من الانتصارات، ولكن شاءت إرادة الله أن تلبي نداء ربها بعد رحلة قصيرة مع المرض، وكانت خلالها شجاعة بطلة مؤمنة واثقة من أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر. ولما وصل الخبر وكانت تتلقى العلاج في مصر إلى معقلها بودنوباوي انفجر الجميع بالبكاء وخيّم الحزن الصادق على الكل وكانت لحظة خروج الجثمان من بيت والدها بودنوباوي إلى مثواه الأخير لحظة تجل عن الوصف على كثرة ما شاهدنا من أمثال هذه اللحظات وكان ذلك يعكس احتراماً استثنائياً وحباً جارفاً وتقديراً عالياً وإعجاباً وانبهاراً ليس له نظير بسيدة شاهقة فاخرة مدهشة آسرة عاشت عمرها كله رمزاً للكمال الإنساني. وما أكثر ما ينبغي أن يكتب عن من هنّ في سمو نجاة بشير نميري.. يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيم..