{ قال لي ليتك تنهض بحملة صحافية عارمة ضد ثقافة برامج الغناء التي تبثها فضائياتنا بكثافة بين يدي الإفطار، قلت له كما حملت نفسك على الامتناع عن الأكل والشرب طوال ساعات النهار، فأرجو أن تحمل نفسك على ألا تفطر على أغنية، والحل أن تبتعد في تلك اللحظات التي لا ترد فيها دعوة للصائم عن التلفزيون. فتلك معارك لا قِبل لنا بها. { وما لا يدركه الكثيرون هو أن رمضان «بالليل والنهار» أن تصوم نهاره وتقوم ليله وتحفظ جوارحك طوال ال (24) ساعة، وأرجو أن أُصحّح لو جنحت في هذه (الحتة)، غير أن السلف الصالح قد أتاح للصائمين ثلاثة خيارات، الخيار الأول «صوم العامة»، وهو الصوم عن المفطرات، ثم «صوم الخواص» وهو أن تصوم جوارحك أيضاً بالليل والنهار، ثم «الدرجة السياحية» التي تخصص «لخواص الخواص» وهؤلاء الذين لا تلتفت قلوبهم لحظة بليل أو نهار عن معية الله سبحانه وتعالى، فاختر لنفسك أي الدرجات ترغب أن تحجز فيها مقعدك في مواسم السفر والهجرة إلى الله سبحانه وتعالى. { فملف الغناء هو واحد من الملفات المسكوت عنها دينياً في السودان، فلو كانت الجزائر هي بلد المليون شهيد، ففي المقابل فإن السودان هو بلا منازع هو «بلد المليون مطرب» هذا غير الواعدين، وغير «نجوم الغد» بطبيعة الحال!. { والأزمة الأخرى هي أن مواعيننا الفضائية ليس لها من المواد التي يمكن أن تملأ به ساعات بثها، لهذا تلجأ في معظم الأحيان إلى المكتبة الغنائية، عندما يتركنا مقدم البرنامج في فاصل غنائي ثم يذهب ليرتاح بعض الوقت، وذلك قبل أن نذهب إلى لحن الختام، فهذا الإرث البازخ هو الذي جعل إحدى حُسنيينا «يا كفر يا وتر»!. { ولما جاءت الحركة الإسلامية عام 1989م بمشروعها الحضاري كانت رؤيتها في بادئ الأمر مرتبكة، فخفضت الغناء في الأجهزة الإعلامية ثم ذهبت في معالجتين اثنتين. المعالجة الأولى تبلورت في إدارة حوار جهير عبر برنامج «المنتدى الفقهي» الذي كان يديره الدكتور أمين حسن عمر، فالحلقات التي تناولت «فن الغناء» قد استضافت المطرب الكابلي ويوسف الكودة والمهندس سليمان الصديق، غير أنها لم تفض إلى رؤية محددة. { والمعالجة الثانية ذهبت باتجاه إنتاج «غناء بديل»، أعني الأناشيد الوطنية والجهادية ثم «فن المديح» بعد أن أدخلت عليه «المعازف الحديثة»، فلا احتفظ المديح بطابعه الرزين القديم، ولا أصبح غناءً صرفاً، ومشروع الإنقاذ الفكري لم يمتلك الجرأة الكافية ليقرر في هذا الأدب بقول قاطع، بل راحت الإنقاذ أكثر من ذلك وهي تستميل قبيلة المطربين للمؤتمر الوطني، فاتحاد المهن الموسيقية يقوده منذ عدة دورات الكادر المؤتمري المطرب حمد الريح. قيل أن غلاماً قد أرهق والديه في تعلُّم اللغة الإنجليزية، فأخذه والده ليعيش مع أسرة بريطانية، فزاره بعد عامين ليفاجأ بأن الخواجية قالت (مين في الباب)، فبدلاً من يتعلم لغتهم قام هو بتعليمهم لغته. { قال لي أحد الدعاة مرة، إن الإسلام في بادئ الأمر لم يجد تجاوباً من السودانيين، إلا بعد أن فطن العرب إلى ثقافة الشعوب الإفريقية. فالأفارقة إذا (نقرت) لهم صفيحاً فإنهم يرقصون، فضُربت الدفوف والطبول واجتمع الأهالي، ثم تدريجياً بدأوا يتفاعلون مع هذا الدين الجديد، فاقترن الدين منذ يومها بالدفوف والطبول، ولهذا يصعب بعد كل تلك السنين أن تجرِّد «القوم» من دفوفهم.. والله أعلم. { فكان هو امتحان الإنقاذ الأول، أن تُقيم دولة طالبانية تُعمِّر لسنتين، أو أن تقيم «دولة الطبول والدفوف» لتعمِّر عقوداً، فاكتفت الإنقاذ بتقييد الحفلات بالحادية عشرة ليلاً. { لكن القصة التي قد لا يُدركها الكثيرون هي أن «فقه المرحلة» الآن هو الحفاظ على تماسك «دولة السودان» على أن نبذل لهذه الغاية الدفوف والصفوف والكتوف، وربما نعود لاحقاً وبعد أن تثبت الأرض تحت أقدامنا، أن نعود «لإقامة دولة الطُّهر والكفاية والقيم». { لكن الأرض الآن تهتز تحت أقدامنا، فالأولوية أن تثبُت الأرض ثم لنُقيم عليها مشروعاتنا. والله أعلم.