٭ كان عوض الحسن ناشطاً في تشكيل حزب الجبهة الإسلامية القومية، وهو يحاول أن يستميل ابن عمه النور إلى هذا الحزب الجديد يومئذ. كانت تقام بالقرب من دارهم «ليلة دراويشية باهظة»، صوت الطبل كان يطغى على كل شيء في تلك القرية الهادئة، قال النور الذي كان يستمع على طريقة «أسرع فأكمل حديثك فإني أرى قطيعاً من الأغنام قادماً»، لما كان أحدهم ينصح الذئب بأن يكف عن أكل الأغنام. كان اهتمام النور منصباً على ذلك المحفل الصوفي الشاهق، وهو يقول لابن عمه «لو كانت جبهتكم دي فيها نوبة لاتبعناكم». ربما كان هذا المدخل لأدب «تشكيل فرق الإنشاد الديني» لما اكتشف الإسلاميون أنه ليس بالإمكان زراعة جبهة إسلامية في أرض صوفية بمعزل عن الدفوف والطبول. ٭ فأصبحت هذه حالة سودانية لا يمكن تجاوزها، بأنك لا تستطيع أن تنجح في كل ضرب وفن دون أن تقرع طبلاً وتشعل بخوراً، فنحن أمة تتشكل من هذا الامتزاج الثنائي «الأفريقي العربي» وأهلنا يقولون «العرق دساس»، فلم يتجاوب الأهالي مع هذا الدين الجديد الذي هو الإسلام إلا بعد أن اضطر الدعاة العرب إلى استخدام الدفوف والطبول، والشعوب الأفريقية لا تحتاج إلى كثير جهد لتمارس طقوس رقصها، فدخل الناس في الإسلام ولم يخرج الطبل حتى يوم الناس هذا، فأصبح طبلنا كالحجر الفلسطيني، فقد قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش يوماً «إننا نحتاج إلى وقت طويل لتنقية الشعر الفلسطيني من الحجارة»، لما وقفت الحجارة مع الفلسطينيين كما لم يقف معهم أحد. ٭ أنا هنا أجتهد في البحث عن جذور هذه الحالة الغنائية العارمة التي تجتاح فضائياتنا في الأعياد، فلا تكاد تجد موطئ قدم في فضائياتنا التي تزدحم بالغناء، فما أيسر الاتكاء على هذا الإرث، وذلك بأن تكلف بإعداد برامج للعيد فتكتفي بجلب مطرب ليملأ هذه المساحة المتاحة وغير المتاحة، بأن يكون الثلث الأول من «أضحية الغناء» لمساكين الغناء الذين رحلوا، وثلث يحفظ لحقيبة الفن، والثلث الأخير يوضع في «ثلاجة غناء المستقبل» فلا ضير.. فلئن كانت الجزائر هي بلد المليون شهيد، فلماذا في المقابل لا يكون السودان هو بلد المليون مطرب؟ فلئن كان ذلك كذلك؛ فلماذا نحتج على قوافل المطربين المعتمرين إلى نيجيريا؟ فنحن قد بلغنا مرحلة الاكتفاء الذاتي، فلماذا لا نفيض بهذه الفنون على الآخرين؟ لا سيما ونحن نعيش حالة «الشح الأخلاقي» وانعدام «العملات السودانية الصعبة»، إذا كان الملياردير الشريف قادر على تعويضنا هذه العملات الصعبة، ليسد عجزنا الأخلاقي والدولاري معاً. ٭ ولئن كان مطربونا أكثر من دعاتنا؛ فلماذا لا تذهب قوافل مطربينا إلى مجاهل هذه القارة السمراء، فتخرج الأهالي من مجاهل الألحان الأفريقية وأوثانها إلى نور «السلم الثلاثي الغنائي السوداني»، إذ لا بد أن يكون لنا دور نصنعه في هذه القارة السمراء، فلئن أدخلنا الإسلام إلى هذه المجاهل والأحزمة الاستوائية؛ فأظنه قد حان موسم دورنا في الارتحال شرقاً وغرباً على متن «السلم الثلاثي»، وخير مثال لذلك الجارة إثيوبيا، فبإمكان «الحركة الغنائية السودانية» الآن أن تزعم بأنها قد أخرجت الإثيوبيين من مجاهل نوتتهم الغنائية البالية إلى السلم الغنائي الثلاثي، فلا يضير بعد ذلك أن يكون الشعب الإثيوبي على أميته الدينية الوثنية، المهم أن يجيد الغناء السوداني، فلقد انتهى دورنا الدعوي الإسلامي في القارة السمراء، وبدأ دورنا الغنائي السوداني، وما قوافل الشريف إلا مقدمة لهذه الأدوار العظيمة القادمة لا محالة. ٭ وليس بإمكاننا أن نجعل القارة السمراء كلها تغني على «السلم الثلاثي» إلا بعد أن تذهب فضائياتنا كلها في حالة غنائية، فدعك من موسم الأعياد، ألم ننجح في تحويل شهر رمضان شهر القرآن إلى شهر الغناء السوداني وذلك بفضل فضائياتنا الملهمة التي هي مفتاح التغيير؟ فنحن لا نملك ثروة أعظم من الغناء لنسد بها كل فقرنا وعجزنا، ليس البرامجي فقط؛ بل الفكري والثقافي، فحتى لما طُلب منا أن نعمل للوحدة؛ لم نجد غير بث «الرقص الأفريقي» وبكثافة، فلا الوحدة الجاذبة أدركنا، ولا ظهر قيمنا أبقينا.. المهم. ٭ مخرج.. فلئن صعد الحجاج على صعيد جبل عرفات ففضائياتنا في المقابل قد صعدت بنا إلى قمة «سلمنا الثلاثي» الغنائي في أيام الفداء.. ٭ الناس على قمة جبل الرحمة.. ونحن تحت رحمة «السلم الثلاثي»..