جامعة الخرطوم ظلت جميلة ومستحيلة حتى الثمانينيات لطلاب الداخل، وقبلة لطلاب الدراسات العليا من الدول العربية والأفريقية المجاورة، ولهذا جاء ترتيبها في الدرجة (51) من بين الجامعات العربية محبطاً لعدد كبير من الأكاديميين وأساتذة الجامعات، فتصنيف «شنغهاي» المعترف به عالمياً وضع جامعتنا «الأم» كذلك في الدرجة 41 على المستوى الأفريقي. وتلتها في الترتيب جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا التي جاءت في المرتبة 57 أفريقياً والمرتبة 68 عربياً، ولم تكن بقية الجامعات السودانية ضمن المائة الأولى عربياً وأفريقياً ولا حتى ضمن الجامعات العشرة آلاف الأولى في العالم !! ويعكس التصنيف مدى التدني في مستويات التعليم العالي بالسودان، التي يرجعها متخصصون أكاديميون إلى أن الزيادة المضطردة في أعداد الجامعات والطلاب بمختلف التخصصات أدت إلى حدوث ثغرة في مجال البحث العلمي وتطبيقاته، وهو معيار رئيسي في التصنيف الأكاديمي للجامعات عالمياً، كما أن التوسع في أعداد الطلاب كان بتركيز على العلوم النظرية بدرجة أوسع، ولم تصاحب الطفرة العددية تلك زيادة في المراكز البحثية أو تطوير لمراكز البحوث الموجودة، كما يتم التبادل العلمي بصورة ضيقة ومحدودة ووفقاً للسياسات والميزانيات الخاصة بالجامعات الراغبة في التبادل العلمي مع نظيراتها في المحيطين العربي والأفريقي. البحث العلمي بالسودان بدأ بإنشاء المستعمر في1900م لوحدة أبحاث تعنى بمسح وتشخيص الأمراض المتوطنة، وتبع ذلك إنشاء معمل «ويلكم» للأبحاث بهدف دراسة ومكافحة الأوبئة، وفي 1904 أنشئت أول وحدة للأبحاث الزراعية وحماية المحاصيل من الآفات، ثم تطورت هذه الوحدات إلى مراكز بحثية على مدى عقود، حتى دمجها في وزارة للعلوم والتكنولوجيا في العام 2001. واكب ذلك قيام ما سمي بثورة التعليم العالي، وتضخم عدد الجامعات الحكومية إلى 32 جامعة وأكثر من 50 جامعة أهلية يفترض أن يمثل البحث العلمي رافداً أساسياً لطلابها وهيئات التدريس فيها، لتطوير المقدرات والإسهام في دفع عجلة التنمية بالبلاد، وحسب إحصائيات 2007م يوجد 5198 أستاذاً جامعياً يتزايد عددهم سنوياً، وتعتبر الجامعات في أي بلد هي أكبر تجمع للعلماء والباحثين، ويتوقف نجاحها في أداء رسالتها على الكفاءة العلمية والتكنولوجية وقابلية التكيف مع المعايير العالمية وفقاً لقواسم مشتركة في التقييم العالمي تتمثل في حجم الإنفاق على البحوث والنشر العلمي وعدد الأفراد الناشطين في مجال العلوم وبراءات الاختراع التي تكشف حجم القدرات العلمية للجامعات، ويعد تصنيف «شنغهاي» الأفضل على الإطلاق إذ يعطي صورة شاملة لمستوى الجامعة وكفاءتها ويعتمد عليه لأنه «مستقل» ويتم لغايات أكاديمية، وعدا تصنيف شنغهاي يجيء تصنيف الدليل المركب لمركز أنقرا التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي مؤيداً له، إذ لم تكن من بين الجامعات المصنفة في جدوله أية جامعة سودانية، مما يعكس حقيقة تخلف جامعاتنا مقارنة مع نظيراتها في المحيط العربي والإسلامي، وجديد بالذكر أن «ترقية» 67% من أساتذة جامعة الخرطوم في الفترة من 2000-2005م «مثلاً» لم تستند على البحث العلمي، بل الخدمة الطويلة الممتازة، ويمكن القول إن فقر المختبرات وضعف التقانة وصعوبة النشر في مجال البحوث الأساسية التي تنتج التراكم المعرفي؛ من أهم أسباب انصراف الباحثين إلى البحوث التطبيقية، فمن مجموع 249 مشروعاً بحثياً قدمت للتعليم العالي في 2008م كان 13 بحثاً في العلوم الأساسية و10 بحوث للعلوم الهندسية، مما يعكس عدم الاهتمام بجدوى البحث العلمي!! و يأتي تمويل البحوث في معظم دول العالم الصناعية من قبل القطاع الخاص ولخدمة برامجه ومشاريعه فيما يعتمد لدينا بصورة قاطعة على الدولة، إذ لا يهتم القطاع الخاص والمدني بتاتاً بتمويل البحوث العلمية أياً كانت أهميتها، وحتى البحوث التي تمولها الدولة لا تتقيد بالضرورة بالخطط والبرامج التنموية الموضوعة إذ تعتمد على مبادرات فردية لأغراض الترقية والحصول على الدرجات العليا، لذا نجدها تتصف بالبساطة وعدم الأهمية علمياً!! ويأتي ضعف التمويل الحكومي نفسه ليؤثر على مستوى جودة البحث حيث يبلغ في السودان 0.2% من الميزانية القومية، فيما يبلغ الحد الأدنى على المستوى العالمي 0.73% كما تناقص بصورة واضحة منذ الثمانينيات، لتعتمد البحوث غالباً على رسوم طلاب الدراسات العليا، وتقلص العون الخارجي لضعف العلائق الثقافية التي أفادت سابقاً في حصول جامعاتنا على المعينات الفنية والأجهزة والمعامل إضافة إلى التدريب وتقلص عدد المجلات العلمية المتخصصة التي تهتم بنشر الأبحاث وكانت تبلغ 53 مجلة حتى الثمانينيات. ويرى عدد كبير من الأساتذة أن الجامعات التي استحدثت لا تتوفر في معظمها البنيات الرئيسية للبحث العلمي وتطبيقاته إذ تهتم غالباً بالعلوم النظرية فيما فقدت الجامعات الأم والقديمة بنياتها الأساسية في المعامل والأجهزة ولا يوجد بها هياكل للإشراف على البحوث كما لا يوجد تنسيق بين الجامعات المحلية مما أدى إلى تكرار العديد من الأبحاث وتشتيت الموارد المحدودة وضعفت المشاركة في المؤتمرات واللقاءات العلمية والإقليمية والدولية التي تعد رافداً لمواكبة التطورالعلمي، كما شكلت هجرة عدد كبير من أساتذة الجامعات أصحاب الخبرات القديمة «فجوة» علمية خاصة وأن أغلبهم هاجروا بغرض تحسين ظروفهم الاقتصادية رغم حاجة أعداد كبيرة من الطلاب والباحثين إلى خبراتهم التراكمية في المجال العلمي. ويرى الأساتذة سيد حامد حريز ود. معاوية محمد مختار وبابكر الحاج موسى إضافة إلى محمد طه شقدي ضرورة اعتراف الدولة بالدور الأساسي للبحث العلمي في التنمية ومراجعة القوانين واللوائح التي تدعم قيام نظام حديث في الجامعات لإدارة البحث العلمي والاتجاه إلى التعاون الدولي لتقليص الفجوة العلمية بيننا والبلدان المتقدمة وتسهيل عودة العلماء والباحثين ذوي التدريب العالي إلى البلاد سواء أبصفة دائمة أم مؤقتة وتنويع مصادر التمويل مع استمرار، وزيادة الدعم الحكومي ووضع نظام لتقويم الأداء البحثي، ونوه الأساتذة الأجلاء لضرورة تطوير الجامعات وإنشاء الوحدات ذات الطابع الخاص من أجل تحقيق الهدف الأساسي للبحث العلمي وهو نشر تطبيقات المعرفة مما يسهم في تنمية المجتمع، واستهجن عدد من طلاب الدراسات العليا بجامعتي الخرطوم - النيلين - ارتفاع الرسوم سواء في حالتي «البحث - الكورسات» ويبررون احتجاجهم بأن هذه الجامعات تفرض رسوماً باهظة لبحوث «نظرية» يتحمل تكاليفها الطالب بشراء المراجع والكتب والطباعة فيما لا توفر له الجامعة وإدارة الدراسات العليا فيها سوى المحاضرات في حال الكورسات أو الأستاذ المشرف في حالة البحث. مع ملاحظة أنهم وجدوا أنفسهم في الغالب مجبرين على مواصلة الدراسة لعدم توفر الوظيفة المناسبة ولأملهم في الحصول على فرص للانضام إلى هيئات التدريس بالجامعات التي تتزايد كل يوم، ويدفع الأهل مصاريف الدراسات العليا غالباً مما يشكل عبئاً اقتصادياً على عدد كبير من الأسر وتتنافى الرسوم المرتفعة التي لا تقل عن 3 ملايين في العام وتصل إلى 6 ملايين أحياناً في جامعة كالخرطوم مثلاً مع تذيّل تلك الجامعات قوائم التصنيف عربياً وإفريقياً وعالمياً!! كما أدى التوسع في القبول للدراسات العليا إلى زيادة أعداد حاملي الماجستير والدكتوراه زيادة مفرطة لا تناسب الحاجة الفعلية لسوق العمل، خاصة وأن أغلبهم من أصحاب التخصصات النظرية التي تسهم بقدر محدود في المجال الأكاديمي ولا تسهم بأية إضافة في سوق التطبيق العملي ورفع الإنتاج في القطاع الحكومي أو الخاص، مما يؤكد عدم وجود جهة تشرف على نوعية وأهمية البحوث قبل الموافقة عليها مما يعني هدراً لقدرات ووقت الأساتذة المشرفين على إجازتها، وتبديداً لجهد طلاب الدراسات العليا والمال الخاص الذي كان يمكن استثماره في ما يفيد الفرد والمجتمع.