الرجل الذي يستطيع أن يطارد لحظة ما ويضبطها متلبسة بالسكون في كاميرته.. متجمدة من هول المفاجأة الضوئية ومن صعقة (الفلاش)، هو رجل يستحق الحضور إليه من أقاصي الأرض، ويستحق بالطبع أن تشكره قبل أن تهنئه على لقطاته، التي لا يكتفي منها بذلك بل يغلفها لك بسكونها ومفاجأتها وضوئها وجوها الخاص على إطار الهدايا البصرية ويهديها إليك في معرض للصور لا يخصك بأي حال من الأحوال، لكنك لما تمضي بعيدا عنه، عابرا شوارع الأسفلت الى مكاناتك النهائية، تكون قد حملته معك بأكمله كاملاً بلحظاته ورجال لقطاته، وحتى كعكاته المضيافة المتخللة بلهك البصري والسمعي بين كل لقطة ولقطة..! لقطات أجدر ألا توصف بشيء سوى مشاهدتها الغالية، وعدم رؤياها للمكان وتشتتها في الزمان مزيجاً من اللون والضوء والإنسان، ولغة الصمت البليغة! هذا ما فعله ثلاثة رجال وكاميرا في معرض يتراوح اسمه بين كلمتين تشكلان أهم المعاني الإنسانية والاجتماعية وحالياً السياسية، كواحدة من تحديات السنوات القادمة في السودان وهما (السلام والوحدة). ويتسامح فيه بالعرض الفنان التشكيلي والمصور( خالد حامد) والمصوّر الفنان (أيمن حسين) والمصوّر السوري - من السودان - (كمال أوغلي) في مساحة واسعة الإضاءة والمرور، حيث أحتشدنا نقلّب عيوننا بين إطارات اللوحات وإطارات السيارات، بواحدة من صالات عرض شركة (ميج للسيارات) – سكودا - بالخرطوم، كتوأمة بين اللوحات المعلقة على جوانب حوائط المعرض وبين السيارات المعلقة بفخامة على الأرض تنظر إلى الحاضرين الذين يتجاوزونها إلى المعلّقة على الحوائط - بشئ من الأزدراء - وقد يباغتك السؤال مثل فضولي أن تسأل: هل هي عربات بالصور أم صور بالعربات؟ والأجابة مفتوحة على خيالك البصري للمعروض، وخيالك العصري لفن الأعلانات! ورغم أن الحاضرين انشغل معظمهم بالأعمال الفنية المستوية على مساحة من السمع وشوف لكن لاريبة حضر البعض للسؤال عن السيارات! والجميع بالطبع يحب السيارات كمطية تستطيع أن توصلنا الى غاياتنا بمطلقها، يبقى الاختلاف فقط في كيفية القيادة واختيار اللحظة المناسبة، كما التقاط الصورة للدخول الى الشارع أو الخروج و(التخريمة) و(الباركينج)! دعك من مسألة التوفيق في اختيار سيارة بقوة تتناسب وظروفك الاقتصادية من حيث الأقساط والخ.. والجغرافية، وطبعا لا غير الأسفلت والمطبات وناس الحركة! والاجتماعية حيث أن سيارتك ملك الجميع؛ أهلك وأصحابك ومن جاورهم! كل هذه وغيرها تستدعي تفكيرك حين اختيارك للسيارة التي ستمتطيها وستستمر علاقتك بها لسنوات بدون توقف! والتوقف في لحظة مجمدة كصورة تسترعي انتباهك وحواسك لأن تقودها الى مسارات وشوارع خيالك توصلك الى غاية ما تود أن تفهمه وما وصلك من تفاصيل اللحظة، كلوحة بارعة الخيال وبليغة الكلام للفنان (خالد حامد) حيث أغتنم ساعة ضوء في جامع عتيق يقف فيه اثنان من المصلين ولا ترى إلا الضوء على تشكيلات الأربيسك وانعكاسه على الجلاليب والأرض وعليك، فرسم بعدسته لوحة عجيبة التفاصيل وترك لنا أن نسرح بينها ونتخيل وننجذب ! وأخرى هي ثوب بنقوش عالمية ل (أيف سان لوران) ترتديه فتاة من قبيلة الأمبرلّلو الشهيرة في النيل الأزرق ! وللفنان (أيمن حسين) لوحة لوجه إنساني مغطى بالطين ولا تنبض إلا عيناه، ويخرج من طرف اللوحة ساق أخضر فلا تعرف هل نبت من الأرض أم من الإنسان أم من اتحادهما أو ماذا؟، أما لوحة للفنان السوري (أوغلي) ليدين عاريتين إلا من تشققات السنين مضمومتين على ...! وهذه كانت لحظته الغريبة المبدعة ليفتح اليدين في خيالنا وينشر فيه تجاعيد التعقيدات البصرية واللحظية.. أليست هذه عربات في طريق سريع تدير رأسك في (صينية) بعيدا عن اليومي والمألوف من اللقطات والوجوه التي نحتفظ بها معلبة في ألبوم صور أو معلقة على حائط منزلي لسكانه! هذه اللقطات البديعة هي الاختيار المناسب للمصور ليقود سيارة بصره بقوة تتناسب وظروفه الجغرافية من تنقلات بين بقاع السودان القارة لنقل التنوعات الجميلة في الشخوص والرموز والحالات، والاجتماعية حيث أنه له أوقاته وعلاقاته وأزمانه التي يتداخل فيها الأهل والأصدقاء ومتطلباتهم! والاقتصادية وتعني طلبات الصور من أفلام وتحميض وترحيلات من والى الأمكنة ثم بالتأكيد مواسم البيع للقطات التي على الإطارات ! كل هذه الظروف وغيرها تسترعي انتباه المصوّر - وهو الأسم الوحيد من أسماء الله الحسنى الذي لا يجدي معه إضافة عبد ليسمى به إنسان! - ليختار لحظته للقطته التي سيرتديها بكامل البصمة والنظرة إطارا ممهورا بإمضائه لتستمر علاقته بها مدى حياتها! فحياة الصورة الأبدية تبدأ منذ لحظة تجميدها في كاميرا رجل بارع اللحظات واللقطات، ولا تنتهي الا بتمزيقها - والعياذ بالله - تخلصا من ذكرى لحظتها! لحظات لم تطل كثيرا خرجنا بعدها من معرض اللوحات والسيارات لا نحمل اطارا من أية واحدة، لكننا مساء الثلاثاء الماضي، عائدين، حملنا السلام في النفس، وحّد بنا علاقات وحوارات ومزاجات وملامح متشتتة لم نكن نراها ولا نعرفها في معرض السودان الكبير!