كما ذكرنا أن هنالك صناعة للرأي في عدد «مفاكهات» السابق، فإن للجمال صناعة هي الأعرق والأنفس.. وصناعة الرأي قد تكون من الصناعات التي تتوارى خلفها أهداف منها السياسية، ومعروف عن السياسة أنها وكما يقولون لعبة قذرة «Dirty game» الشيء الذي تتبرأ منه صناعة الجمال، ذلك أن صناعة الجمال تنشأ عن حب، عن غريزة.. وعن نبل وتُسقى من سلسبيل الوجدان والخيال.. وهي صناعة موغلة في القدم.. منذ عصر الإنسان الأول الذي وطئت أقدامه هذه البسيطة.. وبدأ يشكل حياته ويخلد أحاسيسه وأفكاره في الفخار وما أدراك ما الفخار. تدخل معرض الزهور الدولي الخامس بالحديقة النباتية بالخرطوم الذي يعزف ألحان الجمال هذه، «كل الجمال» في هذه الأيام في مارس «القارص»، فتجد أول جناح يبتسم لك ويحييك معرض أنيق للفخار.. فكأنه يقول لك: من هنا نبدأ، وبدأت حضارة الإنسان منذ الأزل «تعال نجلس ونتونّس ونحكي». وبالفعل كانت هذه الجلسة التي استجبنا لها اليوم مع الفنان التشكيلي ياسر محمد الأمين.. خريج كلية الفنون قسم الخزف عام «1991م».. ياسر الذي تقرأ أعماله منذ الوهلة الأولى فتجد أنه يستثمر أنامله وأحاسيسه وأفكاره وثقافته فتدرك أنك تحتاج أن تسامره لوقت طويل. أول سؤال كان قد أجاب عنه ياسر قائلاً: بدأت نشاطي في مجال الخزف بعد التخرج فكان مع السيد فؤاد قباني، وأسَّست قسمًا خاصًا بمعدات حديثة «1999».. ثم توقفت لفترة طويلة بعد محاولات متعثرة، وأخيراً نشطت بعد القرار الأخير بوقف استيراد البلاستيك والفايبر قلاس والذي كان يرفد السوق «سوق الأصايص والكأسات بالذات» بعدد من منتجاته الرخيصة الثمن وذلك مما كان قد أدى لوقف نشاط الحرفيين عموماً، إضافة لنا كتشكيليين. فعلاً هنالك سؤال يفرض نفسه قد تحسّ به، وهو: لماذا المستورد دائماً ينافس المحلي بل ويكافحه حتى من ناحية السعر؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال المهم ننقلك عزيزي القارئ في سياحة بصرية ومشاهدة ثقافية للتعرُّف على أعمال الفنان التشكيلي ياسر محمد الامين .. بعد دخولك المعرض بالحديقة النباتية بالبوابة الشرقية تجد وعلى يسارك أول معرض للفخار معرض السيد فؤاد قباني ثم يليه معرض الفنان التشكيلي «ياسر».. كأسات كبيرة من الخزف المشكل تختلف قليلاً عن ألوان الخزف التقليدي الآخر المايل نحو اللون «الطوبي» وهذه قد جرت عليها معالجات شكَّلت «لونًا فرائحياً فاتحاً» فمالت قليلاً للون «البصلي» إلى حدٍ ما، لكن الاختلاف في المواد المستعملة في صناعة الأخير كما سيأتي ذكره من حيث الخامة في «الطين» ودرجات الحرارة في «الحريق» وأيضاً في الصناعة والتشكيل والأسعار.. وتجد على مدرج العرض نماذج من أحجام ل «كأسات وأصايص» كبيرة الحجم أسعارها تتفاوت بين «الأربعين إلى المائة وخمسين جنيهًا».. وعليها نقوش وزخارف من وحي الطبيعة «كعنقود العنب» وأخرى تعود للتراث ترمز لآلات موسيقية عريقة موسيقا الوازا كما في غرب السودان وأخرى تستمد وحيها من التراثيات الإفريقية.. وأخرى تخلد شجرة عريقة هي شجرة التبلدية التي تميِّز «كردفان» الحبيبة، وتعتبر رمزاً لها.. هذا غير ما جادت به قريحة الفنان من تشكيلات هندسية مفتحة وتصاميم أخرى. وعلى جانب آخر من المعرض لمسات لمجموعة أعمال خزفية صغيرة «قلل وحقائب» وأشكال من وحي البيئة.. ويتوسط كل ذلك نافورة دائرية كوَّنت من الماء شكلاً بلورياً بعض اللوحات التعبيرية المصورة من أعمال الفنان تتمدَّد هنا وهناك بين حنايا أعماله في انسجام تام لبعض الصور التي تعبِّر عن نماذج من تلك الأعمال ونعرضها من خلال هذه الصفحة هي للمصوِّر الموهوب علي عبد الله مصور الجمعية الذي وثق للجمعية معظم فعاليات معارضها.. والسيد علي يدخل لمعظم الأعمال الفنية بالمعرض من عمق معرفي في فن التصوير.. قال: إن ما يمكن أن نتعلمه من الخواجات في أهم قواعده مقولتهم: Compose the subject in your mind befor you clic the shutter. حدد الموضوع الذي ترغب في تصويره أولاً قبل أن تقدم على التقاط الصورة ولعل ذلك ما تحتاج إليه فعلاً في إكمال كثير مما نود أن نرسله للقارئ من رسائل ثقافية وإعلامية. لذا فإن عمق ما تحسه من خلال مشاهدات أعمال «ياسر» التشكيلية في الخزف تحكي عنها اللقطات المصوَّرة بدقة أكثر وكما يقول المثل «ليس من سمع كمن رأى». فبعض اللقطات التي نعرضها عزيزي القارئ تغنينا كثيراً عن كتابة المشاهد. وتحولنا للإجابة عن السؤال المهم الذي سبق أن طرحناه لماذا المنافسة غير عادلة بين المستورد والمحلي خصوصاً في صراع كهذا يهدّد بقتل ثقافتنا وإرثنا بل ويعرِّضنا لهجمة شرسة من غزو ثقافي مضاد؟ هذا ما سيجيب عنه «ياسر» في العدد القادم ونترك الصور تتحدَّث.