لو كانت اتفاقية نيفاشا تجسّد لحظة حرجة ومصيرية في تاريخ السودان وكذلك كانت انتخابات الفترة الانتقالية في أبريل من العام الحالي، فإن مؤتمر نيويورك الخاص بالسودان، الذي ترعاه أمريكا، يجسد حصادهما الاثنتين معاً، فهو إذن اللحظة الأحرج في تاريخ السودان، ولو هدفت اتفاقية نيفاشا إلى هندسة نظام الحكم في السودان (بفورمان أمريكي) فهذا هو ما تسعى إليه أمريكا الآن بإجماع دولي وتظاهرة دولية في نيويورك. صحيح أن كل الظواهر تشير إلى انفصال الجنوب وأن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون صرحت بأن الانفصال أصبح حتمياً إلا أنها حتمية مشروطة بما سيسفر عنه مؤتمر نيويورك. هدفت أمريكا إلى تحجيم نظام الإنقاذ عبر (الهبوط السلس).. فهي لا تثق بهذا النظام وإن تفاعل معها في الحرب على الإرهاب وهو ما يتمظهر في تناقض موقفها من الإنقاذ في القضية هذه – كما سنرى لاحقاً. هدفت أمريكا إلى محاصرة نظام الإنقاذ وتحجيمه عبر (الهبوط السلس) في هندستها لاتفاقية نيفاشا الناصة على إجراء انتخابات في الفترة الانتقالية وكانت أمريكا تراهن، عند التوقيع على الاتفاقية، على فوز الحركة الشعبية في الانتخابات متحالفة مع حركات دارفور وآخرين وهو أمر أشار إليه مبعوث الرئيس الأمريكي السابق للسودان – ناتسيوس في مقاله (ما وراء دارفور..) إن الحركة الشعبية (تلعب سياسة) بتجميعها لحركات دارفور (في العام 2008) وأن الخرطوم أصبحت عاصمة أفريقية.. أيضاً على ذات المنوال تحدث باراك أوباما في خطابه في القاهرة عن وجود أقلية عربية مهيمنة على أغلبية أفريقية في السودان وأن على أمريكا تصحيح الأوضاع. حاصل جمع أقوال ناتسيوس وحديث أوباما، مع إضافة ما جاء، متزامناً تقريباً مع اقتراب موعد استفتاء مصير الجنوب واجتماعات نيويورك، من دفع أمريكي فرنسي لحركات دارفور بالذهاب إلى جوبا وبأن يرعى سلفاكير وساطة بينها والحكومة.. إضافة كل ذلك إلى بعضه البعض مع تسريع أمريكا وحلفائها لعملية حل مشكلة دارفور الآن، كل ذلك يذكر بما فعلته الحركة الشعبية في العام 2008 من تجميع لحركات دارفور في جوبا أضف إلى ذلك أن ما يجري الآن يتم في خضم تظاهرة دولية تقودها أمريكا من نيويورك ربما كمحاولة أخيرة لتحقيق وحدة السودان مع تحجيم نظام الإنقاذ فهل تهدف التظاهرة الأمريكية إلى تصحيح أوضاع وقوع الأغلبية الأفريقية تحت هيمنة الأقلية العربية (المزعومة) في السودان.. والتي قال بها أوباما في القاهرة، أم تنتهي التظاهرة إلى انفصال الجنوب، السلس. وأيضاً ما يزال خيار الوحدة والانفصال مطروحين على منضدة أمريكا بحسب تحليلنا لخطاب مبعوث أوباما للسودان.. اسكوت غرايشن، قُبيل مؤتمر نيويورك (نعرض له لاحقاً) ووفق ما جاء في إستراتيجية أوباما للسودان أنها شاملة تضمن تنفيذ اتفاقية السلام الشامل وحل مشكلة دارفور، فإن هذا يدفع بنا إلى التساؤل: هل خيار الوحدة بشرط تحالف الحركة الشعبية مع حركات دارفور ما يزال قائماً؟ وهل أرجأت الحركة الشعبية الإعلان الرسمي والمؤسسي (عبر أجهزتها) عن موقفها من قضية الوحدة والانفصال في انتظار ما سيسفر عنه اجتماع نيويورك؟ حيث من المتوقع أن يتعرض وفد الحكومة لإغراءات ضخمة، وأيضاً لضغوط هائلة هناك، في سبيل تحقيق الإستراتيجية الأمريكية. في منبر أخبار اليوم 18/9/2010.. قال باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية عن إرجاء الحركة لإعلان موقفها المؤسسي من خيار الوحدة والانفصال (حقيقةً حتى الآن نحن في الحركة لم نحسم قضية الوحدة والانفصال.. والوحدة في إطار دولة الإنقاذ الإسلامية أو الانفصال، سوف يكون هناك اجتماع لمجلس التحرير الوطني وهذه القضية سوف تُطرح وستعلن الحركة موقفها بالواضح ولو ابتعد هذا الموعد سيكون في أكتوبر المقبل). لماذا لم يقل باقان أكتوبر المقبل (تحديداً) فيريح ويستريح.. فأكتوبر المقبل هذا سيحل بعد مؤتمر نيويورك. في مقال سابق تحدثنا عن التقاء رأس باقان برأس «الكارثة الأمريكية» سوزان رايس، في مجلس الأمن جالسين معاً، وباقان مستوياً على مقعد هيأته له سوزان بصفة مراقب في أثناء مناقشة المجلس لقضية السودان – فهل اتفق الرأسان.. رأس باقان ورأس سوزان على إرجاء إعلان الحركة الشعبية الرسمي والمؤسسي لخيار الانفصال في انتظار ما ستسفر عنه نتائج مؤتمر نيويورك الذي تم الإعداد له باكراً كما يقول غرايشن? وقتها علقنا بأن التقاء رأس باقان برأس سوزان ينبئ عن كارثة قادمة فهل تكون الكارثة هي نيويورك ومؤتمرها ولو كانت أداة أمريكا في مواجهة الإنقاذ في نيويورك هي الجزرة والعصا.. فالمدينة الأمريكية ستكون مسرح تنفيذ هذه الإستراتيجية كما سنرى وكان من فرسان هذه الإستراتيجية سوزان رايس.. حتى أنها قدمت ما تراه تنازلات من موقفها القاصر على استخدام العصا في مواجهة السودان إلى (الجودة أيضاً بالجزرة) وفق تصريحها في أثناء الإعلان عن إستراتيجية أوباما أخبار اليوم 20 أكتوبر 2009. وهي في حقيقتها (جزرة سراب) كما قلنا أيضاً في مقال سابق. وقد شكر سلفاكير سوزان رايس في خطابه الذي ألقاه أمام النواب السود بالكونجرس، قائلاً: (أريد أن أقدم تقديري أيضاً لأختي دكتورة سوزان رايس للعمل الضخم الذي قامت به من أجل السودان وسوف تتذكرها الأجيال جيلاً بعد جيل)، أخبار اليوم 19/9/2010. والعمل الضخم الذي قامت به (الدكتورة) لم يكن لأجل عموم السودان ولكن من أجل الحركة الشعبية والجنوب. حدد باقان إعلان الحركة الشعبية لموقفها من الوحدة والانفصال بشهر أكتوبر المقبل، أي بعد مؤتمر نيويورك، ويبدو أن اختيار الحركة الشعبية للوحدة أو للانفصال سيحسمه المؤتمر المذكور فخيار الوحدة مطروح على منضدة المؤتمر بحسب أقوال غرايشن كما سنرى، إلى جانب خيار الانفصال، وواشنطن أميل للوحدة بترتيبات تحالف الحركة الشعبية وحركات دارفور وهنا يكمن سر (اللهاث الدولي) الراهن في سبيل حل مشكلة دارفور قبل الاستفتاء وهو (لهاث) متناغم مع مؤتمر نيويورك.. وإلى أن يتحقق ذلك، فإن المرجح هو الانفصال.. يقول باقان في منبر أخبار اليوم: (قراءتي هي أن المحافظة على الوحدة في الأشهر الباقية مستحيلة) وكذلك قال سلفاكير.. فالوحدة عندهما مشروطة (بسيطرة للحركة الشعبية زائفة.. والوصاية كما سنرى، لأمريكا).. وضمن أسباب اهتمام أوباما بالسودان البرهنة على قيادة أمريكا للعالم وهو أمر نستشهد عليه بحوار أجراه معه الصحفي الأمريكي فريد زكريا قبل وصوله للبيت الأبيض ودار السؤال وإجاباته بالتداعي المتبادل عن القيادة الجماعية للعالم تحت زعامة أمريكا وعلاقتها بالأوضاع في دارفور. والوحدة على وجه الخصوص عند باقان مشروطة بسيطرة الحركة الشعبية ومشروعها للسودان الجديد ونضيف وحدة (بوصاية أمريكية). في مقال سابق (أيضاً مقال باقان أدهشتنا بالتلاتة) أشرنا إلى أن باقان هو تلميذ نجيب لقرنق.. ولو أطلق باقان لنفسه العنان لأجاب على (غلوتية نخب الشمال خاصتنا: باقان وحدوي، لا لا بل هو انفصالي على السكين، باقان خان قرنق) أجاب عليهم باقان بسخريته المريرة، من لسانه اللاذع. فعلى العكس مما يظنون، فإن موقف باقان من قضية الوحدة والانفصال يعبر عن وفائه (لمعلمه جون قرنق ولأفكاره) وهو أمر شرحناه في مقال (باقان أدهشتنا بالتلاتة).. فموقف باقان من الوحدة والانفصال، كما قلنا في المقال، خرج من بين سطور نماذج قرنق لحكم السودان وعلاقاتها فنموذج قرنق الأول هو السودان الجديد.. ومن نماذجه أيضاَ النموذج الكونفدرالي بأن يحتفظ السودان الجديد (الجنوب) بهويته، وكذلك السودان القديم (الشمال)، ولو انتهى الأمر في الفترة الانتقالية بانتصار السودان الجديد تكون الوحدة، أو لو انتصر السودان القديم يكون الانفصال (لعدم التناسق بين السودانين، القديم والجديد). انتهت انتخابات الفترة الانتقالية بفوز المؤتمر الوطني (السودان القديم) فانتهى باقان إلى خيار الانفصال وفاءً لقرنق ولأفكاره.. وأعلن باقان عن موقفه هذا في (تظاهرة الهياج الانفصالي) في الجنوب ثم أنكره في منبر أخبار اليوم، قال إنه لم يحدد موقفه بعد، مشيراً إلى أنه سيعلن خياره الانفصالي بعد حين.. وبعد حين هذه يبدو أنها جاءت من التقاء رأسه برأس سوزان في مجلس الأمن، في انتظار نتائج مؤتمر نيويورك. ويوضح ذلك قول باقان في منبر أخبار اليوم (أنا متهم حسب الأسئلة بأني قائد الانفصاليين في جنوب السودان وفي نفس الوقت تم اتهامي بأني رجل وحدوي خطير حتى على مستوى جنوب السودان فهناك من يقول بأني واقع تحت ضغوط الوحدويين والانفصاليين، وأنا حقيقة، وهذا ليس موقفاً تكتيكياً، لست وحدوياً ولا انفصالياً وبالنسبة لي الوحدة والانفصال ليس قضيتي الآن و ليس همي أن يتوحد السودان أو أن ينفصل) ويواصل (الذي نؤمن به تماماً هو الوحدة على أسس جديدة وفي إطار دولة تسع جميع السودانيين) إذن ليس هم باقان الآن الوحدة أو الانفصال لأن محك ذلك هو انتصار فكرة السودان الجديد، أي أن ما يهم باقان هو الوحدة على أسس جديدة. جاءت في حديث باقان أقوال عن العدالة والكرامة والمساواة وفق طرح السودان الجديد.. وفي حوار (الشرق الأوسط) معه عن توحيد الجنوب تحدث عن الديمقراطية والحوار في مواجهة المعارضة المسلحة هناك.. أو القوة، أي خيار الحديد والنار.. وبما أن شروط الديمقراطية (التاريخية) مفقودة في الجنوب، وحتى في الشمال، فإن وحدة باقان في (السودان الجديد) تنذر السودان كله (مبادئ الكرامة والعدالة والمساواة) التي قال بها باقان، تنذره بالقهر (بالحديد والنار) هذا لو تحقق السودان الجديد، تحت الوصاية الأمريكية. وكما قلنا من قبل، يبدو أن باقان قد رهن إعلان موقفه المؤيد للانفصال، المنكور (هتف به في تظاهرات الجنوب) رهنه بما سيسفر عنه مؤتمر نيويورك. قال باقان في منبر أخبار اليوم 19/9/2010 (أتحدى أي شخص أن يخرج لي كلام قلت فيه بصراحة أنني أطالب بالانفصال أو أدعو له.. هذا لم يحدث أبداً وحتى الآن لم أدع للانفصال وقريباً جداً سأدعو للانفصال، ولكني حتى الآن لم أفعل). ويلوم باقان دعاة الوحدة من الشماليين بقوله (إن هنالك مشكلة لدى معسكر الوحدويين.. يتحدثون عن الوحدة بطريقة مجردة، أي يتحدثون عن وحدة مطلقة دون تحديد أي نوع منها، وفي هذا المعسكر مشكلة، وعندما تُطرح الوحدة بلغة شمالية يتكلمون بلسان الدولة والشماليين: نحن الدولة، فنحن الشماليون عملنا كذا وكذا وسوف نعمل كذا وكذا وإذا لم تأتونا سوف تندمون، وهذا الخطاب فيه مشكلة لأنهم لا يتكلمون عن أي نوع من الوحدة، وفي النهاية فإن جملة ذلك أن مُستقبِل هذا الخطاب يدرك أنها وحدة مبنية على مصالح الشمال واستغلال موارد الجنوب، لأن الجنوب ليس موجوداً في ذلك ولأن هناك جهة تحيطه بنوع من الوصاية). أي وصاية يقول بها باقان، فالآن الحركة الشعبية تنفرد بحكم الجنوب وتشارك في حكم الشمال، وتناولنا في موضع سابق مساعي حكومات وأحزاب الشمال للتوصل لتوافق مع الجنوبيين.. ولكن الوصاية الحقيقية على كل السودان، شماله وجنوبه بغرض السيطرة على موارده، تسعى لها أمريكا (حليفة الحركة الشعبية).. فما هي حقيقة وأهداف مؤتمر نيويورك؟ إن لم يكن الآن حقيقته المستقبلية؟ (نواصل)