أحسن «مطبخ الأهرام الإخباري» صنعاً وهو يجعل من تصريح «صغير المباني والكلمات خطير المعاني والدلالات»، يجعل منه الخط الرئيسي للصحيفة يوم الثلاثاء الماضي، والتصريح يدلي به رئيس اتحاد المخابز، وهو يتعلق بالخبز، على أن الاتحاد «ينوي»، مجرد نية، مراجعة أوزان وأسعار الخبز، لكن الصحيفة رفعت هذه النوايا إلى مرحلة «الخط الأحمر» الرئيسي، وبالمناسبة إذا أردت أن تتعرف على الخط التحريري لأية صحيفة فانظر إلى خطوطها الرئيسية، وربما في ذلك دلالة واضحة على أن الصحافة يمكن أن تمثل خط الدفاع الأول عن قضايا الشعب، فالزيادة التي كانت متوقعة في أسعار الخبز لا تقل خطورة عن تلك المعدلات الفيضانية التي تعلنها «غرفة الطوارئ» إبان مواسم الفيضانات، لمّا تحذر الذين يسكنون على شواطئ الأنهار لتوخي الحيطة والحذر، ويبدو كما لو أن النداء في حالة زيادة الخبز موجه لجموع الفقراء الذين يتسورون أحزمة الفقر، أو الذي يتسورهم حزام الفقر، والنتيجة في حالتي الفيضانين، فيضان النيل وفيضان الخبز، النتيجة واحدة والهلاك يصيب الزرع والأمل ويخرب البيوت، ربما في حالة خروج النهر عن مجراه بإمكانك أن تستعصم ببعض الصحارى و«الضهاري»، لكن في حالة «خروج الخبز» من مساره هل بإمكان الأثرياء استقبال واحتواء جموع الشعب الذين يشردهم «فيضان الخبز»؟ المهم في الأمر أحسنت الصحيفة وهي «تدق أجراس الخطر» ومن ثم تدفع معظم اتجاهات الرأي لتذهب في هذا الاتجاه، اتجاه تحذير الجهات المختصة من مغبة السير في هذا الطريق الوعر، على أن تسلك الحكومة كل الطرق «لمعالجة ميزانياتها» إلا طريق الخبز، إنه الطريق الذي يفترض أن يظل «اتجاهاً واحداً» ولا يقبل أية رجعة أو ردة أخرى، لتسارع حكومة ولاية الخرطوم لتنفي بشدة أية نية للمساس بالخبز. ولقد كتبنا بالأمس أن الذي يراد تخفيض وزنه هو «شرعية الخبز»، حيث ما زلت أزعم أن الشرعية الحقيقية للحكومات لا تكتسب عبر صناديق الانتخابات، وإنما تكتسب عبر «طاولات مخابز الأفران»، على الأقل إن «التعددية السودانية» التي خذلها الخبز لم تسعفها أغلبيتها البرلمانية، فلما فشلت تلك الحكومات من ذوات الأعمار القصيرة في أن تصنع خبزاً يوازي أغلبيتها ويواري سوءتها لم يبك عليها أحد، ولم تطلق لحمايتها والدفاع عنها رصاصة واحدة، فلقد تساقطت كل تلك «الشرعيات» أمام عتبات الأفران والمخابز الخاوية على عروشها، ولم تفلح كل قصائد اليسار الثورية وملاحم الشيوعيين الموسيقية عن الحرية والديمقراطية في إطعام الشعب، الشعب الذي أدرك أن (كيلة فيتريتة) واحدة خير له من ألف كورال موسيقي متقن اللحن والأداء، وأن كيس رغيف واحد خير من ألف خطبة عصماء، على أن الحكومة التي تفشل في إطعام الشعب لن يبكي عليها أحد. ولقد عرفت الإنقاذ الطريق من يومها الأول وهي تذهب مباشرة إلى المخابز، فالقصة كلها في المخابز، فلن تقبل الجماهير الحرية التي لا يسندها الخبز، فالحرية لا تخرج من الأفواه والحناجر وإنما تخرج من الخبز والأفران، فلن نقبل بعد اليوم حرية من لا خبز له، وهناك واقعة حصيفة أجدد ذكرها هنا لعلاقتها بالموضوع، فلما كانت الإنقاذ تحتفل بافتتاح جسر المنشية الجريفات الذي بلغت كلفته أكثر من عشرة ملايين دولار أمريكي، قال لي أحد المواطنين وهو يجلس في ركن قصي من أركان ذلك الاحتفال الباهظ، قال «إن كيس رغيف واحد خير لي مما طلعت عليه شمس هذا الجسر»، وكان الخبز يتعرض في تلك الأيام إلى بعض الهزات، فذهبت مباشرة لأكتب مقالاً تحت عنوان «هذا خبزهم وتلك جسورهم وقصورهم» وكنت بالأحرى أحتفل بهذا المواطن الفقير بدلاً عن الاحتفال بذلك الجسر الفخيم. عزيزتي الإنقاذ، لقد بقيت على صدارة المشهد السوداني لعقدين من الزمان لأنك جعلت الخبز بطبعاته المختلفة متاحاً وممكناً، وستبقين ما بقي الخبز ممكناً ومتمكناً، ولعمري هذه هي الشرعية الحقيقية، شرعية الخبز وليست شرعية الخطب.