يخبرنا علماء النفس أن أكثر من 85% من حجم معرفتنا نحظى بها من خلال الانطباعات البصرية. ولا شك أن هذا يعلل الفاعلية القصوى التي يتميز بها التلفزيون كوسيط نشط للمعرفة والإعلان والتسلية، ولذلك استطاعت الآلة الإعلامية الغربية أن تصنع من خلاله البرامج العملاقة المؤثرة، وتُطلق في الفضاء العالمي نجوماً ساطعة في فن التقديم البرامجي وهندسة الحوارات وإدارة النقاش بمقدرات مهولة، فليس لديهم مادة فطيرة من ناحية التأثير والتفاعل، كل ما هناك صناعة حقيقية لمجهود ذهني وبدني كثيف ضارب الجذور في الأخلاق المهنية والمواهب الذاتية والرغبة الجامحة في التفوق والمنافسة الشريفة، وهذا ما نفتقده بكل تأكيد، لذلك تعتري معظم برامج فضائياتنا القديمة والوليدة إخفاقات بائنة في طبخة الإعداد وتدنٍ صارخ في مستوى فن الحوار أو إدارته لدى كثير من المذيعين. أضف إلى ذلك أن العلّة قد تكمن في شخصية الضيف المتحدث الذي يطل من منصة البرنامج وتعوزه ملكة الإضفاء المدهش لجوانب الموضوع الذي يتحدث فيه، وقد لا تحتاج لمقدرات علمية أو ثقافية عالية، وإنما القدرة على التصوير الذي يأسر المشاهد. هؤلاء يتجاهلون استخدام الكلمات التي تصنع بدورها صوراً. فالمتحدث الذي يشد انتباه الناس هو الذي يجعل الصور في حديثه تتحرك بين عينيك، الصور عزيزنا ضيف البرامج التلفزيونية، فهي مجانية كالهواء، انثرها في أحاديثك وحواراتك وسوف تغدو أكثر تسلية وتأثيراً. ومن ناحية أخرى يلعب المذيع أو المذيعة دورهما الفاعل لاستخراج هذه الصور من محفظة الضيف، وذلك بامتلاك أدواتهم التي من أهمها فن الإصغاء. فعندما سُئل مذيع «سي.إن.إن» الأخبارية ومهندس الحوارات المعروف «لاري زييجر» المشهور ب «لاري كنج» عن الوصفة السحرية التي قفزت به إلى أفق الألق والشهرة والتفرُّد، قال الرجل بثقة إنه يجيد بشكل دائم فن الإصغاء والاهتمام الكامل بضيوفه ومشاهديه أو مستمعيه على السواء، و«كنج» ليس اسم والده أو عائلته، وإنما أطلقه عليه مدير الإذاعة التي عمل بها أول مرة ورأى أن اسم «زييجر» يصعب هجاؤه، ولما كان يطالع صحيفة يومية لمح صدفة على طول الصفحة دعاية لمشروبات «كنج» فرفع رأسه ل «لاري» وقال له سيكون اسمك منذ اليوم «لاري كنج». والمذيع الذي يستمع لضيوفه جيداً وهو بكل المقاييس مذيع على قدر غير قليل من اللباقة ولديه القدرة على استنباط أسئلته من أجوبة الطرف الآخر، وبذلك يمنح البرنامج النقاط وردود الفعل الجيدة. فأذكر لحظة امتعاض انتابت شخصية سياسية معروفة وهو في حضرة برنامج حواري ساخن عندما جنح مقدم البرنامج، بعد أن طرح عليه السؤال وطفق يبعثر بيديه وبصره مجموعة الأوراق المتناثرة على المنضدة، وترتكز عليها حلقته، فما كان من الشخصية ذات القدرات الخطابية الجبارة، والمعرفة الجيدة بأسس وقواعد فن الحوار، إلا أن ذكره بنبرة حادة بضرورة الإصغاء لإجابته طالما أنه طرح عليه السؤال.. فهذه طريقة متعثرة لا تجدي في الارتقاء بالحوار والمذيع معاً، وإنما تحرج على نحو كبير شخصية الضيف، وتجلب الحنق للمشاهد على الهواء مباشرة، والمذيع في اعتقادي كثير التقارب بينه وبين رجل البيع في دنيا المال والأعمال، وبمثلما يروّج هذا لنفسه ولبضاعته كذلك وبنفس القدر يفعل المذيع فهو يروّج لنفسه بمقدرته على إدارة الحوار مع أي كان وبطرق وأساليب مختلفة وجاذبة في إتمام الصفقة الجمالية والثقافية بينه وبين الضيف الذي يحاوره ليحظى المشاهد بسلعة كاملة الدسم والمواصفات مرتفعة القيمة الفنية تصرف عين المشاهد عن البدائل الأخرى، فإذا كان البائع يسوّق سلعته بالأفكار والأرباح المادية، فإن المذيع تكمن سلعته في الأفكار والربح الثقافي، وهذه مسألة تحدٍ تلعب القراءة دوراً مهماً في التغلُّب على كسادها وتجعل صاحبها يتأهل للحديث في أي لحظة عما يدور بخلد الآخرين، وذلك لتنوع دوائر اهتماماتهم ولكثرة ما يسمعون وما يشاهدون، وإحدى النتائج الكبرى ذات الأثر العميق لثورة الاتصلات في هذا القرن أن الناس صاروا أكثر دراية بما يحدث في العالم من مستجدات أكثر من أي وقت مضى. فالذين يقرأون لا ينضب معينهم على الإطلاق، فدواخلهم يانعة خضراء لا تنتج إلا الإبداع والتفوق والنجاح. وهناك مقولة مفادها أن الذين ينجحون في أحاديثهم ينجحون في حياتهم ومهنهم والعكس. و«لاري كنج» و«أوبرا وينفري» يفعلان ذلك بقدر كبير لذلك يتوهجون عندما يحاورون الرئيس أو الوزير والأدباء الكبار والمشاهير من الفنانين بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم بدون ورقة أو قلم، فهم يحملون مكتبتهم الضخمة في عقولهم وتجاربهم وخبراتهم بين جنباتهم، فلديهم المقدرة على انتقاء العبارات الساحرة وطرح الأفكار ومعالجة الأسئلة بقدر كبير من الشجاعة المستمدة من ثقتهم في أنفسهم وفي سعة أفقهم. والاطلاع يرتقي بالفرد للعُلا، فالكاتب الفرنسي «جوستاف فولبير» قد قرأ لمدة خمسة سنين 1500 كتاباً ليؤلف قصته الطويلة الأخيرة «بوفار وبيكوشيه» وهذا الفعل ينطبق بشكل أو بآخر على زمرة العاملين في دوائر الإعلام المختلفة، ولذلك يفترض أن يعبر المظهر عن الجوهر وبالأخص شخصية المذيع التي تفرض علينا المتابعة البرامجية بعيداً عن «النيو لوك» بأشكاله التي تأخذ الحيز الأكبر في مساحة الهدف الذي يستبق الشهرة دون النظر لجوهر هذه المهنة التي تُعنى في المقام الأول بفن الحوار والاتصال.. بقدر أهمية الوسامة والجمال هنا ولكنهما لا يمثلان بالمرة البريق الذي يخطف سعة الأفق والتلقائية واللباقة. ويمكنك أن تلاحظ ذلك من خلال المتابعة لكل الحوارات التي تجري على أيدي المذيعين والمذيعات فإنك بدون شك ستدرك ببصيرة نافذة من الذي يقرأ ومن الذي يتصفح فقط ومن الذي يقتني مكتبة ومن الذي أو التي منح أو منحت فرصة الإطلالة البراقة بقمصان جميلة أو بمكياج صارخ.