حتى لا يُفاجأ قرّاء هذه الزاوية «بأن الملاذات أصبحت تُكتب من داخل الحافلات والبصات غير السياحية»، فكما يتطلع القراء في كل يوم إلى أن يقفوا على مقدرة الكاتب الأدبية والتصويرية، أيضاً ربما يتطلعون إلى معرفة مقدرة كاتبهم المادية، كأن يقال لك إن ذلك الكاتب يمتلك عمارة أو يسكن في المنشية أو الرياض، غير أنني لا أعرف إن كان احترام القراء سيزداد ويحتدم أكثر إذا اكتشفوا أن كاتبهم صاحب ممتلكات لا بأس بها، وفي المقابل هل ثقتهم وتقديرهم سيتراجع إذا عرفوا أن كاتبهم بالكاد يتطلع إلى أن يظفر بمقعد في حافلة ركاب عادية في غدوه ورواحه لمعاقرة هذه المهنة، لا أعرف الإجابة على وجه الدقة، ولكن الذي أعرفه أن هذه اليوميات التي نكتبها إنما نستمد أفكارها وأطروحاتها وهمومها من الممارسة الحياتية اليومية الطازجة، وتكمن خطورة هذا التحول الدراماتيكي في أن طريقة الكتابات نفسها ستختلف، فمثلاً كثير من المقالات كانت تبدأ بعبارة «بينما كنت أقود سيارتي بجسر المك نمر»، لكن بعد فقدان السيارة الخاصة ستكون البدايات على شاكلة «بينما كنت أنتظر حافلة الركاب»، ولا أعرف إن كانت الهموم بعد ذلك ستكبر أم ستصغر! فمثلاً إن هناك قطاعاً كبيراً من المهتمين بالشأن العام ينتظرونك كل صباح لتكتب بعض الرؤى والاستجابات عن حالتيْ الوحدة والانفصال، وعن العلاقة المتطورة أم المتوترة بين واشنطن والخرطوم، وعن ارتفاع سعر صرف الدولار. ثم يجدونك تكتب عن حالات «الانفصال المتوقعة بين الجماهير وبصات الولاية»، أو أن تتحدث عن سير خطوط المواصلات وإمكانية تعديلها لتستوعب الجماهير التي تنتظر تحت لهيب الشمس، وهل بنزولنا لهذا الأدب سنخسر قراء «صالات كبار الزّوار»؟ إن كان أصلاً هناك قراء «خمس نجوم» وقراء لم يبلغوا مرحلة ما قبل النجوم، وهل القضايا الحقيقية هي قضايا الجماهير الذين يمشون في الأسواق ويأكلون الساندوتشات ويركبون الركشات، أم أن القضايا المصيرية هي الأولى بالاهتمام؟ مصير البلاد بعد أحداث التاسع من يناير القادم. على أية حال هناك مثل سوداني حصيف يقول (الزول بونسو غرضو)، وغرضي «كان ما انقضى خلي دار جعل تنهد»، على أن غرضنا وحلمنا في الفترة القادمة لا محالة هو أن نحظى وسواد الشعب بوسائل مواصلات مريحة، كما أن معظم الملاذات ستحرر ما بين الوحدة وسوق ستة وإستاد المواصلات والأمجاد والهايسات، وقديماً كان يقول صديقنا حسين خوجلي «الحياة يصنعها البسطاء». بالأمس كنت أستقل حافلة مواصلات بين الحاج يوسف وبحري، عندما ركب أحدهم من (محطة الصقعي)، هذه محطة قبل حلة كوكو، وهو يحمل شنطة باهظة، فأشار السائق إلى أن توضع الشنطة على مقعد آخر، على أن يقوم الراكب بدفع تذكرتين، فتبرم الراكب في بادئ الأمر ثم لم يلبث أن خضع لهذا القرار، فحاولت أن أعزيه، فقلت له «أنا كنت موظف بنك، وكنّا نخرج من حين إلى آخر إلى مملكة البحرين في رحلة ال CASH SENDING ونحن نحمل «شنطة فلوس» من العملات الصعبة، وكان البنك يحجز لنا مقعدين على درجة رجال الأعمال، مقعد للموظف وآخر لشنطة الفلوس»، لعل ذلك يهوّن على صاحبي دفع مبلغ الخمسمائة جنيه الإضافية، فتهللت أساريره وكانت التعزية بمثابة سلوى وعزاء له، لكنها في المقابل «فتّقت بعض جراحاتي» ونشطّت بعض الأسئلة النائمة، إن كانت مؤسسة الملاذات تتقدم بقوة مذهلة إلى الخلف اقتصادياً، أنْ تتطور أدبياً وتتخلف مالياً، أنْ تصنع لمؤسستك اسماً وفي المقابل يخذلك تمويل الفكرة والاسم، أليس ذلك سبب كاف ليسقط صديقي اللدود مؤمن الغالي اسمي من قائمة الكتاب الذين يرعون الإرهاب وترعاهم الجبهة؟! والقصة كلها نتجت عن قراءة اقتصادية فاشلة، فقد اضطررت أن أنحر سيارتي في نهاية رمضان، ليأتي بعد العيد تسونامي وزارة المالية الذي قضى بعدم استيراد السيارات المستخدمة، التي يستخدمها أمثالنا لنصبح «متفرجين كباراً» في إمبراطورية الدكتور عبد الرحمن الخضر. فبشرى لأهل الهايسات والأمجاد وبصات الولاية، فستكون هذه المواعين هي أرضية لقصص وحكايات ملاذاتنا القادمة.. والله أعلم.