في واحدة من الجامعات السودانية، وضعت صورة لنائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأستاذ علي محمود حسنين، وكُتبت تحتها عبارة (ضد الحكومة)، وهو وصف يهرب بالذاكرة إلى فيلم عربي شهير بذات الاسم، ربما قصد عبره إبراز حسنين على أنه الرجل الوحيد الذي لم يهادن الشمولية، بعد أن حافظ على قطيعته التاريخية مع كل الأنظمة التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية، وبالطبع (الإنقاذ)، التي يقف على مسافة شاسعة منها، مكنته من إخراج كل ما في صدره من هواء ساخن لدرجة التفكير في تكوين جبهة عريضة لإسقاط (النظام) دون أن يحدد آليات العمل للقيام بتلك المهمة التي يراها البعض مستحيلة. صورة الرجل المصادم والعنيد والمقاتل الممسك بجمر القضية هي صورة الأستاذ علي محمود حسنين التي انطبعت في المخيلة العامة، وعززتها مواقفه الأخيرة وصوته الذي يقطع المفازات محملاً بكل هذا السخط المتنامي مما يفجر عاصفة من الأسئلة بخصوصه، من هو؟ وماذا يريد؟ ولماذا يكره (الإنقاذ)؟ وهل سينجح خصومه في تمرير المذكرة التي تطالب بضرورة استصدار قرار عاجل بفصله من عضوية الحزب؟ وهل أمريكا هي محطتة الأخيرة لإحياء التجمع المعارض؟ الإجابة على أيٍّ من هذه الأسئلة تستدعي وضع الصورة في الإطار السياسي، وفحص طبيعة الحراك الذي يقوم به، والتعرف على شخوص المرحلة حتى لا يبدو حسنين كأنه (تائه في أمريكا) التي يزورها هذه الأيام في مهمة بدأت ملامحها تتكشف شيئاً فشيئاً. حسنين شنّ خلال الزيارة هجوماً غليظاً على قادة الأحزاب السياسية، لدى مخاطبته جلسة أعدها اتحاد الصحفيين السودانيين هناك، وقال فيها: «إن الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قائمة على الطائفية أو البرجوازية»، وهي أحزاب على حد وصفه لا تتمتع بالديمقراطية داخلها، وقياداتها لن يزيلها إلا عزرائيل! والتصريح شكَّل خيطاً تتبعته المذكرة التي أفصح عن مضمونها القيادي بالحزب الاتحادي الباقر أحمد عبد الله، بحسبان أن تصريح حسنين يتضمن تجاوزاً تاماً في حق الحزب ورئيسه، لا بد من الفصل فيه. قبلها بأيام كان علي محمود قد أطلق دعوته القاضية بتكوين جبهة عريضة لتغيير النظام تضم كافة القوى السياسية والاجتماعية والمدنية، ولكن الغريب في الأمر أن المؤتمر الوطني لم يلق بالاً لتلك الدعوة، وإنما جاء الرد عليها من قبل أفراد في الحزب الاتحادي نفسه، بالتركيز على أن حسنين يريد أن يحتكر الحديث باسم الاتحاديين، غير أن هناك بياناً صدر في الثامن من هذا الشهر مذيّلاً باسم الحزب الاتحادي الديمقراطي (واشنطن)، يؤيد الزيارة ويصف حسنين بأنه ثائر ومنفعل بقضايا وطنه وشعبه، وأن زيارته نجحت في رتق جراح الاتحاديين، وهو الوصف الذي لا ينفصل عن عبارة أطلقها الأستاذ فاروق أبوعيسى في حق حسنين، عندما اعتبره رجلاً وطنياً وجسوراً، مذكّراً بأن «أيّما صوت يرتفع ويقول لا لنظام الإنقاذ فنحن معه». أما رئيس الحزب محمد عثمان الميرغني فهو كالعادة لا يهتم بالخلافات التي تنشب بين الحين والآخر بين الأعضاء، ولا يعلق عليها، وإنما يكتفي بالصمت أو تمرير ما يريد قوله عبر بعض المقربين منه. الكاتب الصحفي والمراقب للشأن الاتحادي عادل إبراهيم حمد قال ل (الأهرام اليوم) إن علي محمود حسنين أصلاً هو رجل غير معتدل في تفكيره وحاد في إبداء مواقفه المتشددة تجاه الأنظمة الشمولية، ونبّه إلى أن حسنين عارض مايو حتى سقطت وقال إن هذا التشدد يظهر في أدائه الحزبي، وأشار إلى أنه أيام الديمقراطية كون حزباً سمّاه الوطني الاتحادي وتخلى عنه ليعود إلى الحزب الأصل، ولكنه ظل يحتفظ بمواقفه من الطائفية دون أن يجد في ذلك الأمر حرجاً، وأوضح أن هناك نقاطاً مهمة في شخصية حسنين، وكان من الأفضل لو أنه ترك الآخرين يضعونه حيث يرون هم، وفي هذه الحالة من الممكن أن يضعوه في المكان الذي يناسب قدراته، ولكنه يريد أن يصبح زعيم حزب، وأضاف أن علي محمود هو الآن المفكر الاتحادي الأول وعنده رؤية واضحة لشكل السودان ودستوره تدعمه خلفيته القانونية، نافياً أن تكون له خصومة شخصية مع «الإنقاذ» ولكنه موقفه من كافة النظم العسكرية، وفي «مايو» تعرض لأسوأ مما تعرض له في «الإنقاذ» حيث كان من قيادات الداخل وكاد يُعدم في محاولة انقلاب (1976) وتعرض لإرهاب شديد حيث كان يساق إلى المقصلة ثم يعاد مرة أخرى، أما بخصوص علاقته بالميرغني فيشير عادل حمد إلى أن حسنين مضطر اضطراراً لها وهو محتاج إلى مولانا أكثر وقد جرب الانفصال ومن مصلحته أن يظل في حزب جماهيري كبير يقدمه بصورة أفضل.. في اتجاه آخر أوضح القيادي بالحزب الاتحادي أبو الحسن فرح ل (الأهرام اليوم) أن المذكرة التي تطالب بفصل حسنين إذا قدمت سوف تناقش وسيكون هناك رأي فيها، ودافع عن الذين ينادون بالمصالحة مع «الإنقاذ»، مشيراً إلى أن المصالحة ليست تياراً في الحزب وإنما هي تيار في البلد، وكون حسنين يرفع هذا الشعار فهو لا يعني أنه يمثل الحزب لأنه لا يتماشى مع المرحلة، وأثنى أبو الحسن على مواقف حسنين التاريخية والوطنية، مستدركا «لو أنها كانت عبر مؤسسة الحزب ستكون جيدة بالرغم من أنها كانت تعبر عن خط الحزب في مرحلة سابقة»، واستبعد أن يأخذ الحزب موقفاً منه بخصوص تصريحاته الناقدة للمؤتمر الوطني، وزاد بأن مواجهة النظام لا يُحاسب عليها الأعضاء، وقال إن الجبهة العريضة التي يدعو إليها يرفضونها لأن توقيتها غير مناسب وآليات التغيير معدومة وهي لم تطرح بطريقة جادة، وقال إنهم كونوا تجمعاً وطنياً في الماضي وحملوا السلاح ضد «الإنقاذ»، بينما اليوم يبحثون عن إجماع وطني يخرج بالسودان من أزماته. عادل إبراهيم حمد يمضي في اتجاه آخر بالقول إنه بعد الانتخابات أصبحت لدى الاتحاديين قناعة راسخة بأن «الوطني» لن يغير في سياسته، ولذلك أصبح التيار المهادن للمؤتمر الوطني هو التيار الأضعف، وأي هجوم على «الوطني» يجد تأييداً، ولذلك خلق حسنين حوله شعبية كبيرة وأصبح أقرب لنبض الجماهير خاصة الشباب، أما بخصوص المذكرة المطالبة بفصل حسنين فيقيِّمها عادل حمد بأنها ضعيفة وقد فشلت بصدور قرار من علي نايل برفضها، وأشار إلى أن الهجوم من داخل الحزب الاتحادي على رجل هاجم المؤتمر الوطني فيه مداهنة من الباقر وتزلُّف للسيد الميرغني، وأزمة الحزب أن قادته كل همهم التقرب إلى مولانا. البداية كانت في دنقلا، حيث عاش علي محمود طفولة مختلفة في أرقو بالولاية الشمالية التي ولد فيها في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تتوزع أسرته ما بين مصر والمغرب ودنقلا، وتربطه صلة رحم بالشاعر التجاني حاج سعيد. درس علي محمود، الطفل الصغير ذو البشرة البيضاء، بأرقو والقولد ووادي سيدنا، ثم جامعة الخرطوم كلية القانون، وقد زامل القيادي بالمؤتمر الوطني البروفيسور إبراهيم أحمد عمر، ومن الأشياء التي يتذكرها مجايلوه في الجامعة أنه كان عضواً في حركة الإخوان المسلمين في سنوات دراسته الأولى قبل أن ينتقل إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي ويتبنى تياراً يسارياً داخل الحزب، ومضت الأيام لتتوقف عقاربها على مقربة من الديمقراطية الثانية، حيث علي محمود حسنين نائب في الجمعية التأسيسية، وعلى جدران المدينة لافتات مُشهرة تطالب بمناصرته. بعد سنوات، وعندما هاجمه رئيس البرلمان الحالي أحمد إبراهيم الطاهر وقال له: «أنت ظللت تسقط في كل انتخابات»؛ رد عليه حسنين ساخراً: «عندما كنت أنا نائباً في البرلمان لم تتعلم أنت السياسة»، وقد بدأ الرجل حياته قاضياً وفصل في زمن عبود لأنه أخذ موقفاً مناوئاً لضباط المجلس العسكري، وأصبح بعد ذلك رئيساً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وتم نعته بأنه إسلامي غير مشوش، وطرحه بخصوص الدين والدولة يضعه في خانة العلمانيين، ولكنه له رأي في العلمانية في ذات الوقت، إذ يرى أنها لا تصلح للمجتمعات الإسلامية. حسنين هو الرجل الذي يكره «الإنقاذ» بصورة تبدو للبعض غريبة، أو فيها فجور زائد، لا سيما أنه في منتصف شهر يوليو من العام (2007) داهمت قوة منزله واقتادته إلى مباني جهاز الأمن للتحقيق معه في التورط في محاولة انقلابية بالاشتراك مع مبارك الفاضل، وجرت الدعاية ساعتها أنه بارك المخطط وقام بتمويله مالياً، وظل في الاعتقال قرابة أربعة أشهر، بعد ذلك دخل حسنين في إضراب عن الطعام حتى تم إطلاق سراحه. البعض يردد أن حسنين دخل في خصومة شخصية مع «الإنقاذ» عمقتها تلك المواقف، ولكن أبو الحسن فرح يستبعد ذلك ويتساءل: من الذي يحب «الإنقاذ»؟ المشكلة هي في التعبير عن تلك الكراهية، بطريقة منعزلة أم في إطار المؤسسة الحزبية، ويضيف أن حسنين شاذ في كراهيته، وهو يرفع شعار إسقاط «الإنقاذ» من منطلق ذلك الشعور، كما أن أبو الحسن يستبعد أن يتدخل المؤتمر الوطني ويقوم بالتحريض على حسنين من داخل الحزب، مشيراً إلى أن الحزب الاتحادي حزب مفتوح ولكنه غير مخترق ولا يأخذ موقفاً من أعضائه ما لم يكن مقتنعاً بذلك الموقف، ويمضي إلى أن مواقف الأخير لا تعبر عن الحزب بالضرورة، وإلا خرج الجميع. وختم حديثه بأن هناك فرصة للضغط على النظام لتعديل مواقفه ولكنه لا يستبعد أن يكون هناك خط رجعة وعودة للمعارضة العنيفة إذا لم يحكّم «الوطني» صوت العقل. إلى ذلك ويعتبر حسنين أول المطالبين بمقاطعة الانتخابات السودانية، وقد أطلق تصريحاً داوياً قبل أيام عندما قال إن الحركة الشعبية جهزت نفسها واشترت طائرات ودبابات ووضعت خطة كاملة لمواجهة القوات السودانية إذا احتلت آبار النفط. ما بين رافض لتصريحات حسنين الأخيرة، ومؤيد لها؛ تمضي قاطرة الزمن بالرجل الذي خرج من السودان إلى مصر للقيام ببعض المهام، ومن هناك إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي يتحرك فيها بنشاط هذه الأيام، مما يشير إلى أن أمريكا ربما تكون محطته الرئيسية التي ستنطلق منها شرارة المعارضة مرة أخرى بقيادة رجل لا يعرف المهادنة.