د. واني تومبي لاكو لوكيتاري - ترجمة : محمد الفاتح زيادة الانفصال من أجل ماذا؟ الانفصال هو الانسحاب من عضوية كيان سياسي أو ديني، بينما العلاج الأكمل والناجع هو عملية التئام الجروح أو العلاج. وعليه فإننا في هذا الفصل وكذا في مواطن أخرى في هذا الكتاب سوف نبذل جهدنا لنوضّح أن استمرار معاناة أهلنا في الجنوب، والمتمثلة في التخلف الذي يلتحفه الجنوب كرقعة جغرافية أو تجمع بشري، لا يمكن التغلب عليه بمجرد انفصال الجنوب كرقعة جغرافية أو تجمع بشري عن الشمال. وسوف نوضح بحسن نية وإخلاص في هذه السطور من خلال مخاطبة تحليلية لكافة الجوانب المتعلقة بهذا الأمر حتى تتضح الرؤيا. ونرجو مخلصين ألا ينحو البعض لإضفاء خيانة قضية الجنوب على الطرح الموضوعي للقضايا المثارة في هذا الكتاب، التي تعنى بالموضوعية في المقام الأول. هنالك في الجنوب بعض من يرى، بكل أسى، أنه من الوطنية عدم التصدي لهذه الأخطاء المؤلمة المعيبة في حق قضية الجنوب، وأنه من الأفضل ترك الأمور على ما هي عليه حتى لو كان في مقدور المرء إيقاف هذه الأخطاء أو منع حدوثها. ومن ناحية أخرى، فإن تراكم معاناة الجنوب من منظور تاريخي معاصر لا يمكن الربط بينه وبين وجود الجنوب ضمن منظومة السودان كرقعة جغرافية أو تجمع بشري. وفي المقابل، فإنه يمكن القول بوجود بعض الحوادث المؤلمة التي وقعت بالجنوب، التي يمكن إرجاعها لوجود الجنوب في إطار السودان الموحد، وإن كان القول بهذا يظل طرحاً نسبياً. وإذا كنا نحن معشر من يسمى ب«الجنوبيين المثقفين» لا نقوم بتوجيه أهلنا نحو الاتجاه الصحيح بكل منطق الإخلاص والانسانية وحسن النية وعدم الأنانية، فمن سيقوم بذلك من أجل مصلحة أبنائنا ومصلحتنا؟ ليس من المصلحة في شيء مخاطبة عواطف الجنوبيين وإثارتها لجرها نحو الانفصال عن بقية الوطن. وعلى الذين يدقون طبول الانفصال أن يقفوا هنيهة ليسألوا أنفسهم: الانفصال من أجل ماذا؟ فليسألوا أنفسهم عن ماهية المنجزات التي يمكن للجنوب الإتيان بها في ظل الانفصال ولا يمكن القيام بها في إطار السودان الموحد؟ وعلى دعاة الانفصال أن يبيّنوا من غير لبس لدعاة الوحدة على أساس تحليلي حجم الربح والخسارة لجنوب السودان مقارنة بين الوحدة والانفصال. وهل قمتم بإجراء تحليلي للتكاليف المترتبة على دعوتكم الباهظة هذه؟ إننا نثير هذه التساؤلات لأن هنالك بعض الأخوة الجنوبيين الذين يعتقدون خطأً أن كاتب هذه السطور يتسبب في أذى عظيم لشعب جنوب السودان. إن كاتب هذه السطور لا يمكنه أن يفهم كيف تتسبب مقولته هذه في إلحاق الأذى بشعب الجنوب، بينما هو يبذل جهده لتلافي الأخطار المحدقة بالجنوب؟ وعلى سبيل المثال فقد أدلى كاتب هذه السطور بدلوه في موضوع محنة النازحين داخلياً وكيف أن قضيتهم قد تم تسييسها ولم ينظر اليهم في المقام الأول بكونهم مواطنين جنوبيين وأن احتياجاتهم المعيشية لها الأفضلية الأولى على ما عداها من هموم أخرى، وعلى الرغم من ذلك فقد عادوا ولم يجدوا في انتظارهم ما يستحق. والسؤال المطروح على دعاة الانفصال هو: من منكم يمكنه التعايش مع النعرة المجازية لجنوبية السودان؟ ولماذا لم تقوموا بإحضار ذويكم للجنوب، بينما تقيمون الدنيا ولا تقعدونها لأن بعض المسحوقين من الفقراء الجنوبيين لا يرغبون في العودة للجنوب تحت هذه الظروف البائسة؟ ولماذا يبدو لبعض الكتاب الجنوبيين أنهم كلما أطنبوا القول عن أرض الشهد واللبن التي تنتظر الجنوبيين مع الانفصال، ظنوا أن ذلك سيضمن لهم وضعاً سياسياً سامقاً لا يرقى اليه دعاة الوحدة؟ ولماذا نجد كثيراً من الصحف الناطقة بالانجليزية التي تصدر من الخرطوم، تعتقد أن مجرد تلقيها إعلانات تجارية من بعض السلطات المقيمة بالجنوب، رمز لجعل مبدأ تقرير المصير مرادفاً لإقامة دولة مستقلة في جنوب السودان؟ هذه الصحف يمكن لها أن تنتعش في ظل السودان الموحد، وليس هناك ما يدعوها للتغني بالانفصال الذي يمكن تناول قضاياه بعيداً عن حسابات الفوائد المادية المباشرة. وكيف يمكنكم التحدث عن إقامة دولة مستقلة في جنوب السودان خلال الأربع سنوات القادمة بينما حكومة الجنوب الحالية، والمفترض أن تؤول اليها مقاليد الأمور في دولة الجنوب المستقلة، لا تستطيع توفير الفحم النباتي لمدينة جوبا؟ كيف لكم أن تتحدثوا عن إقامة دولة مستقلة في الجنوب بينما أنتم تستوردون المكانس من كمبالا؟ وهل على الجنوبيين إقامة دولتهم لاستيراد مكانس مصنوعة من القش من أوغندا؟ وكيف لكم إقامة دولة مستقلة في غضون أربع سنوات من الآن وأنتم لا تستطيعون تدبير أمر النازحين حتى هذه اللحظة؟ وقد يقال إن الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة وإن على الجنوبيين محاولة البدء على نحو ما. حسناً، ولكن أين لكم البنية التحتية من الموارد البشرية من حيث الرغبة والرؤية لتقود الجنوبيين نحو أرض اللبن والشهد التي تبشرون بها تحت اسم دولة جنوب السودان المستقلة؟ أرى أنه من واجب المثقفين الجنوبيين عدم السماح لبعض قادة التصادم الضار من الكتّاب وملاك الصحف والساسة الأنانيين أن يستحوذوا على صنع القرار المؤثر في تكوين الرأي الجنوبي. وعلى سبيل المثال، فهل من غير الوطنية أن يدعو كاتب هذه السطور النازحين لعدم الرجوع الى قرى لم يتم تطهيرها بعد من الألغام، والى مزارع غير قابلة للحرث لوجود ألغام مضادة للأفراد في ثناياها؟ وهل من غير الوطنية أن ندعو لعدم نزع أطفال النازحين من مدارسهم الحالية والقذف بهم الى أماكن في الجنوب لا توجد بها مدارس مماثلة؟ وهل من الخيانة لمصالح الجنوب الدعوة الى عدم نزع الجنوبيين من وظائفهم الحالية «حتى ولو كانت وظائف وضيعة» والقذف بهم الى الضياع والعطالة ليواجهوا الجوع، أو حتى الموت؟ وهل من الخيانة لمصالحة الجنوبيين الدعوة لعدم الزج بالنازحين الى قرى لا تتمتع بالحد الأدنى من الخدمات الطبية؟ وهل من الخيانة لمصالح النازحين الدعوة لعدم إيوائهم في قرى لا تتوفر فيها الحماية من الأحوال الجوية غير المواتية؟ وهل من الخيانة لمصالح الجنوبيين عامة والنازحين خاصة، أن يقلق كاتب هذه السطور على المحنة والمصاعب التي تواجههم في مختلف المواقع الجنوبية من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والمالية والثقافية والأخلاقية والسياسية والأمنية والتقنية والإنسانية؟ وأي نوع من الجنوبيين يمتلك عقلاً ثم يدعي أن الخوف على مصالح الجنوبيين حسب ما هو مذكور أعلاه يرقى لمستوى خيانة مصالح الجنوبيين؟ إن هذا الكاتب يحبذ بقوة عودة كافة النازحين الى موطن الآباء والأجداد، ولكن ليس العودة لأحوال ممعنة في السوء والانحطاط لمجرد أنهم عاشوا حياة الضياع خلال العقدين الماضيين في أماكن إقامة اللاجئين. وإن هذا الكاتب يدعو بقوة الى إعادة تأهيل وتوطين اللاجئين في أماكن تليق بآدميتهم وتحترم إنسانيتهم. فكيف يدعي آخرون أن العواطف الإنسانية التي أبداها كاتب هذه السطور حيال حقوق الجنوبيين ترقى لمستوى الخيانة؟ فهل ترون أن الجنوبيين الذين يتجنون على كاتب هذه السطور وهو يبدي كل هذه العواطف الإنسانية تجاه النازحين ومصالحهم هل ترون لهم عقول يفقهون بها؟ لماذا يعتبر بعض الجنوبيين أن مجرد تغيير الموقع الجغرافي للنازحين هو نوع من التحرير؟ أين التحرير؟ في نقل النازحين من موقع معيشتهم الى موقع تنعدم فيه أبسط مقومات الحياة، وهو ما يمكن تشبيهه بأخذ السمك بعيداً عن الماء؟ كيف للبعض أن يعتبر المصاعب التي قد تواجه النازحين، كيف له أن يعتبرها تحريراً؟ إن كاتب هذه السطور ليعترض بشدة على تسييس عودة اللاجئين. أمامنا أربع سنوات بالكامل لإعادة اللاجئين الى مواطنهم السابقة معززين مكرمين. وليس من حسن السياسة في شيء أن نسعى لمعاناة اللاجئين لمجرد الزعم بأننا نحكم كل جنوب السودان. وهل كل هذا الاهتمام من كاتب هذه السطور حيال مصالح الجنوبيين يعتبر خيانة لقضية الجنوب؟ لماذا يريد البعض أن ينحو بعض الجنوبيين، بمن فيهم كاتب هذه السطور، منحىً سلبياً تجاه مصائب اللاجئين، وبذلك يمكن اعتبارهم وطنيين في إطار السياسة الجنوبية المعاصرة؟ إن النقاط التي أثارها كاتب هذه السطور لَتقذف بالحق في وجه المسيرة العاطفية نحو الهاوية السياسية التي تعبأ لها الجهود تحت اسم دولة الجنوب المستقلة. وهنالك اعتقاد خاطئ يروّج له بعض الكتاب غير الأمناء بأن الدخلاء هم المسؤولون عن انعدام الشعور بالوحدة في أوساط التجمعات السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، المالية، المهنية، القبلية، العرقية والدينية للجنوبيين. وهذا خطأ، حيث أن اللاجئين الجنوبيين قد ارتكبوا جرائم قتل بعضهم البعض في مختلف بقاع أفريقيا وأمريكا واستراليا. كما يستمر الجنوبيون في كره بعضهم البعض في بلدان إفريقية وأمريكية واسترالية وهندية وعربية. فهل تمت هندسة كل هذا العداء عن طريق الدخلاء؟ فإذا كانت الإجابة نعم، فإن للجميع الحق أن يرى أن أناساً تتم هندستهم ليقتل بعضهم البعض أو حتى ليكره بعضهم البعض، ليس في وسعهم أن يديروا شؤونهم بأنفسهم، حيث يفتقرون للنضج السياسي. وإن هذا الكاتب ليشكر الله أن الشقاق بين الجنوبيين يرجع لعوامل داخلية مصطنعة، وأن استمرار هذه العوامل يؤدي الى تدمير الجنوبيين، ما لم يثوبوا الى رشدهم. إن العوامل التي تحتم على الجنوبيين رفض العودة لهي نفس الأسباب التي تجعل من المستحيل قيام دولة في الجنوب قابلة للبقاء والاستمرار. إن الدولة المستقلة لا تظهر في الوجود ولا يستمر وجودها نتيجة لرغبة البعض المسنودة بقوة السلاح من مجموعات لا يمكن السيطرة عليها. إن وضع بضعة آلاف مسلحين غضبى الى جانب حقول نفطية متنازع عليها تحت إمرة زعماء القبائل لا يمكن أن يؤدي الى تكوين دولة مستقلة حسب منطوق منظمة الأممالمتحدة ومفهومها للدول ذات السيادة. ولا يمكن تحت أي ظرف أن تلبي البنية التحتية المتوافرة الآن بالجنوب مسوغات قيام دولة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة. إن جنوب السودان يفتقر للبنية التحتية من الموارد البشرية اللازمة لمراقبة أداء حكومة قابلة للحياة حسب المعايير العالمية. إن حكومة تقوم على أساس الولاءات القبلية لا يمكنها قيادة مجتمع جنوب السودان نحو استقرار طويل الأمد حسب التعريف العالمي للاستقرار السياسي، بما يؤدي الى المحافظة على الأمن والسلم العالميين. فهذا الزحف غير المسؤول تجاه انفصال جنوب السودان سوف يؤدي بلا شك الى تقزيم الحرب الأهلية في رواندا مقارنة بما سيحدث في الجنوب، وكأنها تمثيلية قام بها بعض الأطفال. ولقد شهدنا بعضاً من ذلك في مناطق صغيرة من الجنوب. ومن ناحية أخرى، فكيف للبعض أن يعتبر الولاء السياسي النابع من النفاق نوعاً من اللفتة الوطنية؟ وكيف للمرء أن يصبح وطنياً إذا لم يكن في وسعه أن يشير للمخاطر المحدقة ببلده لمجرد أن يحوز على رضاء القادة والحزب السياسي؟ ونتساءل من هو المخلص الحقيقي لقضية جنوب السودان؟ هل هو من يرفض تصحيح الأخطاء أو الإشارة إليها لحماية حزبه، أم ذلك الذي يشير ويدعو الى تصحيح الأخطاء حتى ينعم مواطنوه بعيش كريم؟ من هو الأكثر إيماناً بقضية الجنوب؟ أهو من ينتقد نقداً بناءً لتحقيق الأفضل للجميع، أمن يجنح للولاء الحزبي ضاراً بمصلحة المجموعة؟ من هو الأكثر إيماناً بقضية الجنوب؟ أهو من يدعو ويؤيد فرض حزب واحد على الجميع، أمن يدعو الى التنوع السياسي المشبّع بحب الانسان واحترام الأفكار لمصلحة رفاهية شعب جنوب السودان؟.