ستظل مسألة الاستفتاء وتقرير انفصال الجنوب مطلع يناير القادم هاجسا يؤرق الجميع ، لخطورة هذه المرحلة المفصلية في تاريخ السودان الحديث، فمما لا ريب فيه انه يحمد للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية ان توصلا لاتفاق دائم افضى لتنزيل السلام والاستقرار على ارض الواقع ، بعد أن استشرت الحرب الضروس وحصدت الأرواح وأحرقت ما احرقت وقتلت من قتلت ونزحت جراءها آلاف من الأسر وشردتها ، وباتت الأسرة الجنوبية تفترش الأرض وتلتحف السماء وفؤادها افرغ من فؤاد ام موسى ، يملؤه الخوف والرعب. ويكاد لا يخلو بيت من شهيد أو مفقود لا يعلم مصيره وقدره المحتوم إلا الله ، فضلا عن المعاقين وذوي الأيادي المشوهة والأمراض النفسية التي ضاقت بها الأسر بما رحبت ، فكانت ابوجا بمسمياتها المتعددة التي بذل فيها د . غازي وصحبه ومحاوروه من الحركة جهدا مقدرا وعبدوا الطريق لاتفاق ميشكاوس الإطاري فتمخضت عنه نيفاشا التي كانت تدخل نفقا مظلما وتخرج منه لتلج نفقا آخر اشد إظلاما وأضيق من سم الخياط ونيفاشا لا تقل عن الجمل حجما، حتى ظن المراقب أن السلام في هذه البلدة الظالم اهلها المتعددة الأعراق والسحنات والألسن لا نصيب لها في الاستقرار وحظها فيه كحظ فرعون وهو يلاحق موسى في اليم . إلا انه للحقيقة والتاريخ فقد كانت للأستاذ/علي عثمان والراحل د . جون قرنق كانت لهما ارادة صخر جلمود لصنع سلام من هيكل فولاذي غير موجود في طبيعة الأرض ، ولدهشة الجميع والمراقبين كانت اتفاقية نيفاشا، فتراقصت الأماني الحالمة حيال الجميع وتولد احساس بأمل اخضر من جديد بمعايشة ممكنة ، ووجدت قناعات تجذرت بالدواخل بأن السلام آن اوانه ، وقد قالها الراحل د . قرن وهو يخاطب الحشود التي استقبلته بدار المؤتمر الوطني (سلام جا) فتباً للمستحيل، فبفضل الله استطاع المؤتمر الوطني مع الحركة ان يصلا بهذا القطار لمحطات الأمان ، ويوقعا اتفاقية مأزومة شهدها لفيف من المجتمع الدولي وتابعها الشعب السوداني بوجدانه وكانت القلوب تخفق ما بين الرجاء والخوف ، كيف لا وقد اوقفت نزيف الحرب وأخمدت نيرانها المتلاسنة بعد ان تطاولت ردحا من الزمان. وللتاريخ . وشهادة لله ولكل مراقب او لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد سيظل البند الذي اقرته نيفاشا (تقرير مصير الانفصال او الإبقاء على السودان موحدا) خاصا بأهل الجنوب وحصريا لهم ، من انكأ الأخطاء الجسيمة التي جاءت على متن الاتفاقية ، وقد اخطأ المؤتمر ( وسيحاكمه التاريخ بغلظة وفظاظة ان افضى الأمر لانفصال ) وما كان يجدر به ان يهدي الحركة امرا كهذا وما كانت الحركة تجرؤ او تنبس ببنت شفة إن تمترس المؤتمر خلف أن يبقى السودان موحدا وأعلنها داوية فليحرق من يحرق وليغرق من يغرق، استنادا على انه عندما كان انقاذيا فجر استلامه للسلطة كان السودان كتلة واحدة ، وقد ذكر د . عبدالرحيم عمر محي الدين في كتابه (الترابي والإنقاذ.. صراع الهوى والهوية) انه قال (لقد قال الترابي «إن الإنقاذ قد بدأت اسلامية وانتهت أموية»)، ص 115. عموما عندما تلاين المؤتمر وأبدى ضعفا ظاهرا لم تتوان الحركة في ان تلتقط القفاز وتتمسك بصك تقرير مصيرها لتشهره في وجه المؤتمر في حينه لسحبه. الآن المؤتمر الوطني يدفع ثمنا باهظا ويبذل جهدا خارقا لتغيير دفة هذه الأشواق الانفصالية التي تقمصت قادة الحركة الشعبية (صقورها تحديدا) والسواد الأعظم من شعب الجنوب، وهيهات للبن المسكوب ان يعود لإناء مشروخ ، والحركة تطرح مسابقتها لتضرب موعدا لاختيار نشيدها الوطني شريطة أن يتضمن كلمة (KOOSH) وللذين لا يعرفون فإن كوش مملكة سودانية قديمة قامت في شمال السودان وكانت عاصمتها كرمة ، وامتد فترة بقائها ل 500 عام على ذمة التاريخ. وقد قرأت للقيادي الأبرز بالمؤتمر الوطني والاقتصادي المعروف عبدالرحيم حمدي قوله«الانفصال بيد النخبة الجنوبية حتى لو شيدت الحكومة مئات من المشاريع بالجنوب» - (الأهرام اليوم) العدد271. ومن المفارقات أن المؤتمر الوطني الذي غيب معظم التنظيمات والاحزاب السودانية ومنظمات المجتمع المدني آنذاك ، الآن يناشد الجميع بأن «اقيفوا الى جانبي حتى تكون الوحدة جاذبة» ، وقد اندهشت له وهو يصرح بأنه يحمل القوى السياسية نتيجة الاستفتاء. وقد سمعت الإمام الصادق المهدي يصرح لقناة النيل الأزرق ب(السلام روتانا) عشية احتفال اسرة السفارة المصرية بثورة 23 يوليو ، فقال«كان من الأوفق أن يسعى المؤتمر ليجعل كفة الوحدة راجحة فالجاذبية شيء فضفاض وهلامي والترجيح فعل منظور» ، وأجد نفسي اتفق معه في ما ذهب اليه. الآن المؤتمر يقاتل في كل الجهات بعصاة كفيف ، بعد أن كان بصيرا وأهله اولو قوة وبأس شديد ، والأمور عنده تتأزم والوضع الاقتصادي يتردى وتضيق عليه الحلقات وتستحكم على عنقه وتكتم انفاسه ، وهو مشغول ليرسخ لهذه الوحدة الراجحة اعمدتها في ارض الجنوب ذات التربة المتحركة ، وقد انقضى الزمن المتفق عليه وبالكاد تبقى الزمن المستقطع بدل الضائع ، وقد استنفذ فرصه في الإحلال والإبدال وضعفت لياقة لعيبته ذهنيا اللهم الا حارس المرمى وبعض لعيبة الوسط والكابتن وقد انقطع الاتصال مع خط الهجوم. نسألك اللهم أن تجنب السودان الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ولتبقيه واحدا موحدا وتحفه بعنايتك من خطرفات الانفصاليين وتحفظه من المتربصين به والطامعين فيه وباعد بينه وبين الذين لا ينظرون اليه الى ما أبعد من ارنبة أنوفهم التي فقدت حاسة الشم ، واستبدت جلودهم ان تستجيب لخاصية الإحساس.