{ إننا بلد المتناقضات كما نعلم جميعاً، حيث تتضارب القرارات والسياسات والآراء، وحيث لا يمكنك أن تعلم تماماً من هو المسؤول عن إصدار سياسة ما، بعيدة كل البعد عن واقعنا ودون مراعاة لأوضاعنا وكأن من أصدرها يعني بها شعباً آخر غير هذا الشعب المغلوب على أمره الذي يقف معظمه على خط الفقر إن لم يكن تحته. أنت هنا، في بلد المليون ميل مربع، حيث تعمل كل جهة حسب مزاجها، وحيث ينعدم التجانس والاتفاق في تصريف شؤون المواطن، وتحاك «القرارات» بليل ليطلع علينا كل صباح جديد بأمر جديد مفاجئ دون تخطيط أو دراسة موضوعية، ومؤخراً صدر قرار مباغت بمنع دخول السيارات المستعملة إلى البلاد ما لم تكن موديل العام الحالي 2010م! ولم أتوقف كثيراً عند تفاصيل الحكاية على اعتبار أنني حتى الآن من الراجلين والحمد لله ولكنني طالعت القرار الوزاري مثل جميع المواطنين وأحسب أنه باختصار كان يقضي بعدم دخول أية سيارة وافدة من الخارج بعد تاريخ 16/9/2010م ما لم تكن «موديل السنة»، وربما كان ذلك لأسباب تتعلق بترقية مستوى السيارات بالبلاد وتحسين نوعيتها لتعكس صورة راقية وتوحي برفاهية العباد على اعتبار أن العيش الرغيد وحده يسمح باستخدام آخر الموديلات عبر الطريق، ولا عزاء لأصحاب الدخل «المهدود» عفواً المحدود! وهذا هو تفسيري البسيط للأمر كحال السواد الأعظم من الراجلين البسطاء الذين يعنيهم أمر رغيف الخبز أكثر من ماركات وموديلات السيارات وما تتمتع به من مزايا وخواص. { المهم، يُروى أن أحد السودانيين العائدين من الخارج بعد غربة قاربت ال 15 عاماً قد آثر العودة الطوعية النهائية لرحاب الوطن الحبيب، وهو للعلم صاحب وظيفة مرموقة ويحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة مما أهله لتحسين وضعه بالخليج فقرر الرجوع لاستثمار مدخراته بالبلاد وقضاء ما تبقى من عمره بين الأهل والأحباب، ولما كنت قريبة منه لمست بنفسي حجم التفاؤل والطموح الكبير الذي عاد به على أمل أن يصنع الكثير لنفسه ولبلاده بفضل خبرته التي اكتسبها هناك، غير أنني كنت أخشى عليه من ثقته المفرطة في تصاريف الجهات المعنية بأمر توطينه، وهذا ما كان. فبطل روايتنا عاد بسيارته من مقر إقامته بالخليج بتاريخ 26/6/2010م، أي قبل صدور هذا القرار المتعلق بمنع استيراد العربات بنحو ثلاثة أشهر، وبعد أن رتب أوضاعه وقرر الذهاب طائعاً مختاراً لتخليص سيارته جمركياً ودفع ما عليه من رسوم جمركية (كاش داون) رغم ما طرأ عليها من زيادة بلغت 18% لتكون جملة المبلغ المطلوب منه 42 مليون عداً ونقداً، فوجئ برفض قاطع من إدارة الجمارك المعنية ومطالبته تعسفياً بإعادة السيارة إلى خارج البلاد فوراً قبل القيام بمصادرتها!! لتبدأ رحلته مع الحيرة والاستغراب ما بين التجارة الخارجية والمالية والجمارك بكل التناقض الذي يكتنف العلاقة بين ثلاثتها، فأين الحل؟! وما هو التفسير المنطقي إذا كان القرار الوزاري المعني يقضي بفترة سماح شهرين على السيارات الوافدة قبله وهي للعلم لم تكتمل بعد؟ وما هي الفائدة التي تعود على هذا المواطن أو على الوطن بإرغامه على إعادة سيارته إلى الخارج والاستغناء عن مبلغ 42 مليون تعهد بدفعها طائعاً لصالح خزانة البلاد؟ وأين المرونة اللازمة والتسهيلات في تصريف شؤون وإجراءات الطيور المهاجرة على أمل استقطابها للاستثمار والتنمية داخل الوطن؟ إنني أبحث عن تفسير منطقي لهذا التعسف وذلك التناقض في تفاصيل تستوجب الكثير من الحكمة والمرونة والكياسة من جهات مهمتها الأولى تقديم التسهيلات والخدمات لا وضع العراقيل وتكسير المجاديف، علماً بأن بطلنا يفكر الآن جدياً في تصفية أعماله من جديد والعودة من حيث أتى، وهو يحمل في ذهنه صورة سلبية ومحيرة عن الوطن الذي كان يمني نفسه بالراحة والأمان بين ربوعه، وهيهات. { تلويح: أبحث عن تفسير، بل تفاسير منطقية، فهل من توضيح؟