وحج اليسار إليك نفاق وأقطع حد ذراعي رهاناً ستصبح ثم تراهم سماناً وثم يُشد عليك الوثاق ما أكثر ضحايا الحركة الشعبية لتحرير السودان، والقصة المؤلمة تبدأ بشعب الجنوب نفسه ولا تنتهي بقطاع الشمال، شعب الجنوب الذي تاجرت باسمه الحركة وباركت وربحت واكتنزت، فهذه الأبيات الرائعة التي قالها الكتيابي يوماً في شأن الوطن، كأنما تنزلت اليوم من بيت الشعر المعمور إلى شعب الجنوب المقهور، شعب الجنوب المادة الخام لثورة المتاجرين الكبار بالشعارات، فبعد خمسة أعوام من تدفق عائدات النفط المليارية الدولارية، ازداد أدعياء التحرر والنضال ثراء، وفي المقابل ازداد الأبرياء تعاسة وفقراً، والذي هو أمرّ من الفقر هو أن مستقبلهم قد بيع بأبخس الأثمان، وذلك لمّا وقّع الكبار مقدماً ونيابة عنهم صكوك «تقرير الانفصال»، لمّا تحولت بقدرة قادر الوحدة الجاذبة إلى «الاستقلال المقدس». والضحية الثانية هي ما يعرف «بقطاع الشمال»، يتامى التاريخ وأرامل الثورات، فلقد تركتهم الحركة في «عراء القطاع» وذهبت لتؤسس لدولتها الإقطاعية، والقصة حزينة حزينة حزينة، يصلح لها الغناء، (لو داير روحك تسعدها تنسى هموم وتروحها.. سافر قوم.. سيب الخرطوم.. سافر جوبا)، وفي رواية غنائية بكائية أخرى (جوبا مالك عليّ.. جوبا شلتي عينيّ)، لقد نسيت الحركة الشعبية في (رمشة عين) أن هؤلاء المناضلين قد أنفقوا عقوداً من النضال والثورة في الأحراش والمهاجر، وأنهم قد خلعوا جلود عشائرهم وعمائم قبائلهم وذقون أفكارهم لأجل «قيام دولة السودان الجديدة»! وذلك على أنقاض وركام «السودان القديم»، وفي غمرة نضالهم وسكرة ثورتهم لم ينتبهوا يوماً إلى أن الحركة الشعبية كانت تستخدمهم لعبور الجسر، فما أن عبرت حتى ركلتهم غير مأسوف عليهم! إنه المصير المحتوم لكل الذين خانوا أوطانهم وباعوا عقائدهم عبر المسيرة الإنسانية، ولم تبق أمام هذا القطاع المفجوع إلا قضية «الجنسية المزدوجة»، على أمل أن يقيموا حركة شعبية «بنصف هوية» وبقايا قطاع (مقطّع المصارين مهرود الأكباد)، والرد يأتي من الدكتور كمال عبيد، أكثر رجل مهذب في قطاع المؤتمر الوطني، قال رجل الثقافة «إن غداة الانفصال لن يكون بمقدور الأجانب أن يتحصلوا على حقنة فارغة من مستشفى الخرطوم»، وما تقوله مؤسسة الملاذات هو أفظع، فالرأي عندي، أن أية محاولة لقيام حزب تحت مسمى هذا القطاع تصبح محاولة يائسة لقيام حزب عميل لدولة أخرى وسيركله الشعب بالأقدام قبل أن تحظره الدولة بالأقلام، فيصبح أمام يتامى هذا القطاع خياران اثنان، إما اللحاق بجلاديهم ليصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية، أو الهجرة إلى لندن وأمريكا، ومن يرتضي العيش هنا سيمنحه الشعب جنسية «عميل سابق»، فلا أتصور ذاكرة هذا الشعب ستنسى بين عشية وضحاها أن هذا (القطاع) قد أسهم بفعالية في صناعة عشرات الآلاف من حالات اليتم والترمل التي لم يسلم منها بيت سوداني. فحال وقوع الانفصال لن تكون هناك «ازدواجية معايير» تمكن أربعة ملايين جنوبي من تشكيل «حركة شعبية» في الشمال، ألا يكفي أن الحركة الشعبية قد حكمت كل الجنوب وبعض الشمال في الفترة السابقة وفق مقررات «مستنقعات نيفاشا»، فإذا قرر الجنوبيون الانفصال؛ فلن تكون هناك «نيفاشا» بفرندات السوق الإفرنجي، فضلاً عن أن تكون لهم جولة وصولة. أما قادة هذا القطاع فقد رتبوا «مهاجرهم القادمة» والارتحال إلى مجاهل التاريخ، والتاريخ لا يرحم، والديّان لا يموت.