تسلّمه جسدك، الكرسي الدوّار، فيفعل به ما يريد من اهتزازات وتحوّّّلات ودوائر كاملة أو نصفية، لتجد نفسك بعد حين لا تقف على أرض الكرسي إنّما تتململ على إسفنجة من القلق المبتل فلا يمكنك الجلوس أو القيام! والكراسي الدائرية، آفة التصميم الديكوري الحديث، جعلت من الضيوف في برامج التلفزيونات مجرد أطفال في روضة تغيب مشرفتها عن ساحة الالعاب، فيلعبون ما شاءوا ويدورون في فراغات الزمن لا يحسنون حديثاً أو وقوفاً! وقد تفنّن مصمم ديكور ما في قناة ما، بإقناع إدارته بجلب تلك الكراسي من محلات الأثاثات الكثيرة كنوع من التغيير لديكور الأستديو الممل والقديم، وطفقت كل مكاتب الديكور في كافة القنوات السودانية المحترمة تجلب ما استطاعت اليه سبيلا من الكراسي الدوّارة. وتدورت الأسئلة ولفّت الإجابات ودار رأس المشاهد تباعا مع عدد دورات الضيف والمذيع، أما الكرسي فيا لميزة صنعه، يعود إلى حيث كان بلا دوار يصيبه ضاحكاً ملء شدقيه على من جلس عليه وتدوّر بالحديث فيه. وفيما يقف مهندسو الديكور المميزون على أرجلهم لساعات يرسمون على الورق كيف يكون الشكل النهائي لموقع داخلي، إن كان مكتباً أو أستديو، يكون تصميمهم موافقا لمعرفتهم تماما بأن الكرسي وحدة أساسية من وحدات الديكور الداخلي، لذلك يجب أن يروي ما يريده مهندس المكان من حديث وبشكل واضح ومباشر. لهذا لا يمكن أن يوضع كرسي دوّار في مكتب وزير، فهو يعكس وجهة نظره غير الثابتة تجاه كل كلام وزارته، ولو كانت وزارة كلام في كلام! كما أنه لا يمكن وضعه في مكتب مدير مدرسة أو مسؤول أو الخ.. لذات الصفة الملازمة للكرسي مع من يجلس عليه. وعليه فإن فكرة الاستفادة من الكراسي الدوّارة على القنوات الفضائية، إن كانت منوعات أو أخباراً، فكرة بها شيء من الغرابة والاستخفاف إن لم يكن (العبط)، فكيف يلف المذيع بجهة ليسأل ثم يلف الضيف عكس جهته ليجيب؟ كيف يمكن أن يسمح مخرج - درس لسنوات علم الإخراج بكافة مستلزماته الفكرية والنظرية - بإجلاس ضيف على كرسي لا يسعه ويتدفق بقية جسده على حوافه والفراغ بين الأرض والكرسي، ثم يدور بعد كل ذلك في المساحة المحددة له بالإجابة.. ويقع المشاهدون من فرط دوّار البرنامج فلا هم سمعوا ولا استمتعوا! (متعة هذه الكراسي في الأساس هي في استعمالها كأثاث لصالونات التجميل والحلاقة رجالاً ونساء، فهناك فقط يصلح أن تلف رأسك وتدور بجسدك لتخرج في كامل التزيين.!) وناهيك عن فكرة استجلاب كراس صنعت لأغراض لا علاقة لها بالبرامج أبدا، ككراسي البارات وكراسي صالات العرض.. أزياء، تشكيل، متاحف.. الخ.. التي ملأت أستديوهات القنوات السودانية بكافة ألوانها وأشكالها كخدمة كريمة يبرع مهندسو ديكورات القنوات في بذلها بسخاء للمشاهد السوداني عديم النظر والإحساس بالجمال والديكور وفلسفة المكان والأثاث، على أساس أننا ما زلنا نتمرغ في العناقريب كفكرة مقيمة في ذواتنا العاملة والمشاهدة والمستضافة ولم نتحرك قيد شبر منها في كافة مجالاتنا فنتكئ جانبيا حين الحديث والونسة الفضائية، والدليل على ذلك أن معظم ضيوف ومذيعي القنوات لا يدركون كيف يجلسون، ولما جاءوا بالكراسي الدوّارة اكتمل المشهد المخيف لطريقة الجلوس المباشر على الشاشة! وتشاء الأفكار المقلدة بغباء أن تكون معظم كراسي قاعات اجتماعات في بعض الوزارات بذات الطريقة من اللف والدوران، فلا تستطيع منع جسدك من اللف حتى ولو كان الحديث من الضرورة والاهتمام ما يمنعك من التنفس، دعك من فكرة الدوران اللذيذة، والمؤسف في ذلك أنك تجده يدور بالمسؤولين ويلف بالباحثين ويقلّب أرجل وأيادي المغروضين، ثمّ لا يهدأ له بال إلا إذا دار الحديث عكس مقاعد السادة المتحدثين، وتحول من جهة إلى أخرى فتخرج بعد دورات اللف والدوران، من ذات مدخلك في الحديث والخطوات! لكن ورغم عدواه الخبيثة والمنتشرة إلا أن هناك مسؤولين يكرهون فكرته ودورانه اللانهائي، يستبعدونه بعجلاته القصيرة وقاعدته المتحركة بلا ثبات أو خلخلة، ينكرون على مسؤولي ديكوراتهم كيف يفكرون فيه كمقعد لضيف محتمل وإن كان على هزل، يعرفون أن المقعد يمكن أن يونّس الضيف بدلا عنك بمقدار راحته وتوهطه عليه، وإدراكك الواعي لأن الذي خرج من داره بكافة كراسيها وعناقريبها وجاء إليك ينشد حاجة أو استضافة أو مجرد ونسة لا يحب أن يتعب في الجلوس كما تعب في القيام! إن قائمة فوضى ديكورات القنوات وبعض مكاتب الدولة وقاعات الوزارات طويلة بما يكفي لملاحظتها ليس من باب الفراغ حديث الأولويات إنما من قبيل أن مراعاة فروض (القعدة) تعدل مايل اللسان فلا يقع الكلام أو الضيف على أرض الملام! أو يدور فتدور ثمّ يعود في ذات مكانه القديم كرسي بمتحدث دوّار يلف الرأس والكلام!.