قبل فترة ليست بالقصيرة، وقفت على سوبر ماركت بالخرطوم لشراء بعض الاحتياجات، فلفت انتباهي شراء بعض «النسوة» (للبامية) الجاهزة المعلبة، ولأن علاقتي ضعيفة جداً بمثل هذه الأشياء؛ سألت المشرف على المحل عن نوعية هذه (البامية)، وهل تقوم البقالات ببيعها للمستهلكين بدلاً عن أماكن بيع الخضر والفاكهة؟ فقال لي بعد أن ضحك من حديثي هذا: (إنت أصلك قاعدة وين؟)، وأضاف راداً: (بامية جاهزة) تضاف إلى الحلة الجاهزة من البصل والصلصة والبهار لتصبح تلك الطبخة (طبخة بامية). قلت: معقول؟ ويا سبحان الله! قال لي: (السنة الجاية إن شاء الله حتجوا تشتروا الحلة جاهزة بطبيخها من هنا). نعم هذه حقيقة، فالزمن قد تغير وكذلك وتيرة الحياة ولم يعد هناك وقت كافٍ لتقوم ربة المنزل خاصة تلك التي تعمل بإدارة شؤون المطبخ كاملة بنسبة (100%)، لذلك فهي قد تستعين بالأشياء الجاهزة من السوبر ماركت، فمثلاً الطبيخ الذي كان يستغرق في الماضي فترة ساعة ونصف لإعداده؛ يستغرق بالتقنية الحديثة (ربع ساعة فقط) وتكون بذلك قد استفادت من بقية الزمن في أشياء أخرى. فالأسر ميسورة الحال ليست وحدها هي التي تستفيد من تغير وتيرة الحياة اليومية، فمعظم الأسر رغم محدودية الأجر فإنها تسعى وبشتى السبل إلى تقليل الزمن من أجل إعداد وترتيب شؤون الأسرة والمطبخ، لذلك نجد الكثير من النساء يعرفن جيداً البقالات التي توفر لهن كل شيء حتى (البهار الجاهز) الذي يوضع في أكياس معبأة بطريقة جميلة جداً وما عليها إلا أن تشتري وتكون قد أراحت نفسها من الوقوف أمام ماكينات سحن البهار، فالتاجر الشاطر هو الذي يوفر كل هذا وسيأتي قريباً جداً زمن تستريح فيه المرأة من إعداد الطعام. فهل بعد كل هذا التغيير الذي حدث في مجتمعنا نرجع للوراء؟ لا أظن ذلك. ففي الماضي كانت (الحبوبات) يقمن بطحن (الذرة والقمح والدخن) عبر ما يسمى ب (المرحاكة) التي اختفت بعد ظهور الطواحين ومطاحن الدقيق وأصبحت (المرحاكة) من الأشياء التاريخية والأثرية، حيث يتذكرها البعض عندما تكون هناك مناسبة تحكي عن الماضي في ظل ظهور بعض المطاحن التي تقوم بالطحن بطريقة حضارية جداً لتتلاشى الأشياء القديمة التي جاءت في وقتها وزمنها. فثورة الاتصالات عندما جاءت دحضت (البريد) و(التلغراف) ف (التلفون) كان للأخبار الطارئة وأخبار الكوارث ك (الموت) مثلاً، فصاحب المنزل عندما يستقبل (تلغرافاً) فإنه بلا شك أمام خبر (شين) حمله ذلك (التلغراف) الذي لم تتعد كلماته ال (10)، فكل كلمة كانت تحسب بمبلغ معين لذلك كانت مختصرة جداً فهي بمثابة (المختصر المفيد). ما قادني لهذه المقدمة، حديث وزير المالية علي محمود في حواره مع «الشرق الأوسط» حول العودة إلى (العواسة)، (عواسة كسرة الذرة أو الدخن وعواسة القراصة)، نعم هناك أسر كثيرة تعتمد على الكسرة والقراصة والعواسة ولكن في المقابل هناك أسر كثيرة لا تعرف شيئاً عن العواسة بعد أن انتشرت الكسرة في البقالات أو في أماكن بيعها، ولا أظن أن حديث وزير المالية ودعوته للعودة إلى (العواسة) هو مبرر لارتفاع أسعار الخبز أو تقليل وزنه الذي كما قلنا أصبح ك (الريشة)، فأنت (وفّر) المحاصيل من قمح وذرة ودخن ثم اترك الخيار بعد ذلك للمستهلك فهو الذي يحدد إلى أين يتجه، إلى (العواسة) أم إلى البقالة لشراء الجاهز. فأنتم مسؤولون مباشرة عن تدني الإنتاج والكفاف والفقر الذي نعيشه في ظل ارتفاع كل شيء فبدلاً عن أن نرتقي بثقافتنا الغذائية ونحددها نحن فقط وليس غيرنا تدعونا (للعواسة)، نعم فإن للذرة والدخن والقمح مؤشرات غذائية ولكن أين هي الآن فمخازننا خالية حتى من (الفئران) والذرة تصاعدت أسعارها وإذا وافقت ربات البيوت على (العواسة) وأعلن ذلك فحتماً فإن أسعار (الصاج) سترتفع وكل أدوات العواسة سيعلن ارتفاعها، نعم هذا هو الواقع الذي نعيشه في السودان إذا زاد الطلب ارتفعت الأسعار حتى في أدوات (العواسة) فحتى التصريحات التي تعلن من حين لآخر خاصة تلك التي تتعلق بالأمور الحياتية فإنها قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار وذلك مثلما حدث في سلع خاصة تم رفع نسبتها الجمركية بعد القرارات المالية الأخيرة الخاصة بضبط الوارد وتقليل فاتورة الواردات ولا أظن أن هذه السياسة نجحت في كبح جماح الأسعار، فالذي يرتفع في بلادي لا ينخفض مرة ثانية وهناك نماذج كثيرة لسلع وآخرها الخبز، فوزير المالية كان قد أعلن أنه بصدد إعادة الخبز إلى وضعه الطبيعي ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، فالخبز سيظل كما هو حتى وإن أنتجنا ما يكفي حاجتنا ويزيد سيظل ك (الريشة) ويساوي لقيمات محدودة.