بمناسبة يوم الغذاء العالمي، قال تقرير منظمة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة: إن الجوع يجتاح اليوم مليار نسمة، معظمهم في دول آسيا وأفريقيا. العجيب في الأمر أن قضية الجوع في العالم لم تطرح نفسها بشكل واسع إلا خلال ربع القرن الأخير، وكان البنك الدولي قد أدلى بدلوه في هذه القضية بما يشبه المفاجأة، خاصة أن البنك هو رأس الرمح في تعميق مفاهيم النظام الرأسمالي العالمي. وعندما جاء حكم «الإنقاذ»؛ واصلت كتاباتي وتحقيقاتي حول هذه القضية التي ظلت محور اهتمامي منذ احترافي العمل الصحفي، ولكن ربما لحدة قلمي في تناول هذه القضية؛ لفت ذلك نظر الأستاذ علي عثمان محمد طه وهو وزير الشؤون الاجتماعية وقتها، وعضو المجلس الوطني الانتقالي المعين، وكان شخصي أيضاً عضواً معيناً في المجلس، فكلف من دعاني لمقابلته بمكتبه في الوزارة، وعندما جلست إليه أفاض في الحديث وأسهب عن قضية الفقر في السودان، ومن بين ما قاله إن حكومة الأنقاذ غير غافلة وغير ناكرة لهذه القضية ولها مشروعات في هذا الشأن. وبالطبع لم يمكث الأستاذ علي عثمان طويلاً في وزارة الشؤون الاجتماعية، وإنما تنقل إلى مواقع أخرى متعددة، ومن الأمانة أن يقال إن الرجل لم يتخل منذ ذلك الوقت عن بذل ما يمكن بذله لمكافحة الفقر، وإن كانت القضية ليست من السهولة بمكان، وآخر ما توصل إليه هو رئاسته لمشروع «النهضة الزراعية»، وهي قضية لن يتحقق هدفها النهائي إلا عبر حل قضايا أساسية أخرى لصالح المجتمع السوداني كله، ومن هذه القضايا ملكية الأراضي الزراعية الشاسعة، ومواصلة قيام البنى التحتية من سدود وكهرباء وطرق، والقضاء على الزحف الصحراوي، والهدّام، وزيادة الدخل القومي عن طريق التوسع في إنتاج النفط وغيره من المعادن النفيسة الأخرى، وصادرات الثروة الحيوانية المتوافرة، وكبح جماح النشاط الطفيلي، وتقليل الإنفاق على جهاز الدولة، وسد الطريق بقوة القانون أمام إغراق السوق المحلي بالمستورد من السلع الغذائية التي ينتج السودان ميثلاتها ولا يجني ثمرات عائدها إلا أقلية على حساب المنتج المحلي، وإلى آخره. إن مسيرة السودان بإمكانياته الزراعية؛ كان ينبغي أن تبدأ منذ بداية عصر استقلاله الوطني، ولكن الصراعات السياسية، والأطماع الأجنبية، والحروب والنزاعات؛ هي التي ظلت العائق الأكبر في طريق مسيرة الوطن، وتغيير حاله بأحسن حال. وما زلت أذكر أن عالم علم النباتات، فاورق محمد إبراهيم، عندما كان رئيساً لذلك القسم بمشروع الجزيرة؛ كان يقول إن قضية السودان هي أن يصبح بلداً زراعياً في المقام الأول. ولكن هذا الكلام العلمي لم يكن يحظى بأُذن صاغية لا عند اليمين ولا عند اليسار وهو يساري، ووقتها لم يكن هناك أي حديث عن مجاعة أو عن نقص في الطعام، لا في السودان، ولا في أفريقيا، ولا في العالم، كما لم يكن هناك أي حديث عالمي بأن السودان سلة غذاء العالم، وكذلك البنك الدولي لم يتحدث إلا أخيراً عن أن العالم يعاني بشكل عام أزمة طعام، وبشكل خاص في آسيا وأفريقيا. وأذكر أيضاً ما نشرناه منذ سنوات على صحيفة «الخرطوم» من دراسة أعدها بروفيسور سليمان سيد أحمد حول إمكانية أن تصبح الخرطومهولندا أخرى لما تتمتع به من موارد لإنتاج المواد الغذائية. وكم وكم نشرنا على ألسنة أهل التخصص ودراساتهم حول التصحر والجفاف والهدام والرعي الجائر الذي قضى على الغطاء النباتي، وكذلك حرق الغابات للحصول على الفحم النباتي. ومن الدراسات الممتازة دراسة أعدتها هيئة مكافحة التصحر بولاية الخرطوم، وهي تمتد من الخرطوم إلى وادي المقدم. والسودان اليوم يمر بأخطر مرحلة في تاريخه، ويتربص به الأعداء من كل جانب، ولكن سواء أبقي دولة واحدة أم انفصل إلى دولتين، وإن كان الأخير هو الأرجح؛ فليس أمام دولة الشمال غير مراجعة حساباتها القديمة وما أدت إليه الصراعات مما نحن فيه الآن، هكذا بعد أكثر من نصف قرن هو عمر الاستقلال الوطني. أما إذا كان هناك من السودانيين من يتصور انهيار السودان في الفترة القادمة، وانفتاح الطريق أمام التآمر الصهيوني؛ فهو واهم كل الوهم، وحتى إذا نشأ نظام في الجنوب مدعوم من إسرائيل كغيره من دول أفريقية حولنا؛ فذلك لن يؤثر على الشمال في قليل أو كثير، كما يتوجس البعض، بدعوى التحكم في مياه النيل أو خلق متاعب أخرى للشمال. وإنما المهم هو ارتفاع القوى السياسية جميعاً إلى مستوى مسؤولية حماية الوطن، وما يتمتع به من موارد تملأ نفسه بالطمأنينة في أن مستقبله الأفضل والأحسن مضمون مضمون. { في كلمات في مواجهة الوجود الإسرائيلي في الجنوب لا مجال للبكاء، وإنما لا بد من التعجيل بإنفاذ خطة تستهدف توفير المياه بحفر آبار المياه الجوفية المتوافرة في جوف الأرض، وكذلك استغلال النهرين الجوفيين العظيمين في شمال وجنوب دارفور، والأول يمتد حتى دنقلا، وإقامة مزيد من السدود على الأنهار الموسمية كنهر القاش وستيت على سبيل المثال، والسودان غني بأمطاره، وكل ذلك كما يقول الخبراء يفوق مياه نهر النيل. صحيح أن كلفة هذه المشروعات فادحة جداً، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن الدول والمؤسسات العربية والإسلامية لن تتقاعس عن بسط يدها للسودان في سبيل إنجاز هذه المشروعات، وكذلك الصين صديقة السودان في السراء والضراء. ولا مكان للباكين والمتباكين مدمني المواقف السلبية والعاجزة.