أصبح الآن الطب يتفق مع الأدب تماماً (فكلاهما مؤذٍ وليس مجزياً).. وقديماً كان القدامى إذا أرادوا أن يدمغوا أديباً بتهمة، أو يسخروا منه بقول؛ يقولون عنه: أدركته حرفة الأدب! وكأنما لحقته لعنة، أو نزلت به نازلة، أو مسه طيف من جنون! قال شاعر من الموهوبين هو جحظة البرمكي يلعن صنعة الأدب ويلعن أبويه اللذين أسلماه إلى تلك الحرفة المشؤومة وأنزلاه من خفض العيش إلى ضيقه: ما أنصفتني يد الزمان ولا أدركتني غيرُ حرفة الأدبِ لا حفظ الله حيثما سلكت أمي.. ولا جاد الغيثُ قبر أبي ما تركا درهماً أصونُ به وجهي، يوماً عن ذلَّةِ الطلب ... ورِقُّ العصر الحديث (الأطباء) أو الذين أدركتهم حرفة الطب، تبدأ معاناتهم بعد التخرج مباشرةً، وهم ينتظرون بنفاد صبر بعد أن أنفقوا جله تحصيلاً في المراجع التي تثير المواجع لفترة قد تمتد عاماً كاملاً حتى تترفق بهم الوزارة وتتلطف ليكونوا ضمن منسوبيها الكرام في السلك الوظيفي.. وبعد ذلك يبدأ الفيلم الشهير والمعروف في السودان باسم (الطب ذراع من جريد في يد من حديد)، الذي يُجيد أبطاله التمثيل، وهم إيقاف مرتبك كطبيب امتياز، وهوان سؤال أسرتك الصابرة التي كانت تضع آمالها العراض على تلِّ طبك الرملي، ومن ثَمَّ انتظار وظيفة الطبيب العمومي، ومحاولة الإيفاء الشاق بمتطلبات المعيشة والتطور في مجال الطب الذي لا يرحم المتأخرين.. وتكون المحصلة النهائية هي تسلل الأعوام من بين يديك، وتتحقق بذلك مقولة الساخر العراقي أحمد مطر (قصة رجل وُلد وعاش ومات دون أن يترك أثراً سوى وجوده الذي كان)، فكأن أطباء السودان أعزاءنا القراء هم (تنتالوس) في الأسطورة اليونانية الشهيرة.. التي تقول: إن تنتالوس (الإغريقي المسكين) أرادت الآلهة اليونانية أن تتفنن في تعذيبه؛ فحكموا عليه أن يظل عطشاناً إلى الأبد.. خائفاً إلى الأبد.. جائعاً إلى الأبد.. وضعوه في بحيرة من الماء العذب تحت أشعة الشمس، فإذا أراد أن يشرب ارتفع الماء حتى شفتيه، وإذا انحنى إليه ليرتشف منه شيئاً انحسر الماء حتى قدميه.. وإلى الأبد.. وإذا جاع أتت الآلهة بشجرة تفاح وراحت أغصانها تقترب من شفتيه، فإذا حاول أن يقضم شيئاً منها ابتعد التفاح عنه، ويظل على هذا الحال إلى الأبد.. وإذا أراد أن ينام حملته الآلهة إلى أحد الكهوف، وحينما يحس بالسكينة يسقط فجأة حجر ضخم على رأسه، وقبل أن يصله يتوقف، ليظل خائفاً إلى الأبد!! أما إذا حاول أن يصرخ أو يستغيث؛ انهالت عليه الأحجار والأشجار وأغرقته في الماء حتى يسكت!! وهكذا تستمر أسطورة عذاب تنتالوس.. والآن أعزائي الأطباء (أطباء هذا الزمان.. ما رأيكم في التشابه الظاهر للعيان.. بين آلهة الإغريق واليونان.. ووزارة الصحة بالسودان)، وما رأيكم أكثر في أبيات قصيدتي (تنهيدة طبيب سوداني) التي تقول: شافع صغير في وهدتو حبوبتو تمسح جبهتو وتغني للغالي الوليد يا ربي حقق مُنيتو وأشوفو بس دكتور كبير والناس تلوك في سمعتو والطب علم كل العلوم تجلس خضوع في حضرتو وحليلو لمن كان حلم والناس تتوق لي دخلتو أصبح سراب لي كل زول ضاق العذاب في مشيتو يوم التخرج كان جميل (طبطوب) صدح بي بهجتو وجات (العطالة) ولي سنة هدمت حلم في روعتو ولسه المواجع في الطريق (طبطوب) ذرف لي دمعتو حال (الوزارة) النايمة ديك ليها القلوب اتلفتو دقاتها ما قالت كلام طب (الوهم) وا خجلتو { وفي الختام حتى الملتقى أعزائي القراء أسأل الله لكم اليقين الكامل بالجمال حتى يقيكم شر الابتذال في الأشياء.