في حوار أجريته مع د. عبدالله علي إبراهيم، ونُشر بجريدة (الصحافة 16، 19 ديسمبر 2000) .. وفي مداخلة لنا تعقيباً على حديث للدكتور عن دور الحزب الشيوعي في نشر الوعي وسط الجماهير، قلت له: على الرغم مما ذكرته عن دور الحزب الشيوعي في نشر الوعي، فالغلبة كانت للقوى المتنفذة وانتهى الصراع بحل الحزب الشيوعي ذاته وتدميره لاحقاً. قال: الحزب الشيوعي لم يدمره الحل ولكن دمرته المؤامرة، فالثأر واليأس دفعا بالبعض إلى ارتكاب الحماقات واحدة تلو الأخرى، وكان الحل في الصراع السياسي مشروعاً ولكن الانقلاب غير مشروع، وحل الحزب الشيوعي كان متوقعاً والحزب (ما انضرب) من الخارج وإنما من الداخل، فحركة حله كانت سطحية على عكس ما هو متصور، وكان حل الحزب ثورة برلمان على نفسه ولم يكن ثورة شعب على الحزب الشيوعي بل نحن كنا قد حركنا وقدنا مظاهرات ضد القوى المطالبة بحل الحزب، وكانت القوى التي نحركها أقوى من القوى الأخرى. لا شك في أن الحماقات التي قام بها البعض من الحزب الشيوعي، في توصيف د. عبدالله علي إبراهيم، وأن الحزب قد (انضرب من الداخل)، هي حقيقة يعكسها (الجدل الموثّق) الذي كان دائراً في داخله قبل انقلاب مايو، عن دور البرجوازية الصغيرة من الضباط، السلبي، في إنجاز التغيير الثوري وضرورة العمل وسط الجماهير، وفق رؤية عبدالخالق محجوب. ولكن أيضاً كانت هنالك عوامل خارجية ساهمت في ضرب الحزب الشيوعي، إذ كان انقلاب مايو ومساندة الحزب الشيوعي له ومشاركته في حكومته (مشاركة مشروطة)، بمثابة جرس إنذار للدوائر الاستعمارية الغربية، فوقتها كان المد الاشتراكي على أشده وانتصار حركة تغيير اشتراكي في السودان كان يعني انتقال العدوى إلى كلٍ من أفريقيا والوطن العربي من خلال (البوابة) الواصلة بينهما، أي السودان. بمرجعية فؤاد مطر في كتابه (الحزب الشيوعي السوداني، نحروه أم انتحر؟) – وبمرجعية تيم نبلوك في كتابه (صراع السلطة والثروة في السودان)، فبعد انقلاب مايو تدفقت أسلحة إسرائيل على الجنوب، بتوافق مع أمريكا، وفيما بعد ساهمت بريطانيا، حليفة أمريكا، في إجهاض انقلاب 19 يوليو الشيوعي، وبعد فشل الانقلاب انفتح (النميري الاشتراكي) على (أمريكا الرأسمالية، والمؤسسات المالية الدولية صار رهن إشارتها، وفي خدمة سياستها الخارجية) وتم الانفتاح على أمريكا والمعسكر الغربي بمشورة البيروقراط والتكنوقراط الذين أوعزوا للنميري بإبعاد الوزراء الشيوعيين، كمعوق للتواصل مع المعسكر الغربي، فأبعد النميري فاروق أبو عيسى ومعاوية إبراهيم. وفي المقابل، فهو ذات تخوف الغرب الإمبريالي من العقديين، الذي ذكره د. الترابي في الحوار الذي أجريته معه – حوار جَدَل النقائض – ونُشر بصحيفة الرأي الآخر، تستثيره في أمريكا والغرب، هنا، الحركة الإسلامية، باعتبار أن الحركة الإسلامية أيضاً كانت ناقلة لجرثومة التغيير، والمقاربة بين دور الحزب الشيوعي في الستينيات إلى انقلاب (مايو، يوليو)، ودور الحركة الإسلامية في الثمانينيات إلى انقلاب الثلاثين من يونيو وقرارات الرابع من رمضان، وموقف أمريكا والغرب من الحزبين الشيوعي والإسلامي، هي (مجهر النظر الأبعد) لما يجرى الآن من مساعٍ أمريكية غربية لتفكيك السودان وإعادة تركيبه من جديد وفق عامل العرق والدين وعلى ضوء مصطلحات جديدة و (موضة) .. منها (فوضى كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وفدية باقان أموم، صاحب المرقوعة في حلقات الذكر، بشأن أبيي). وما نقصده بالعامل الأبعد في النظر هو أن الأكثر استهدافاً في المخطط الأمريكي الغربي، هي الأحزاب السودانية العقدية ذات الفكر المُهدِد بالانتقال، بالعدوى، إلى دول الإقليم، بما يهدد المصالح الغربية فيها، ومن ثم فإن إعادة تشكيل السودان على أساس عرقي يعوِق من نشاطها وعودتها للحياة بعد تجربتي مايو 69 ويونيو 1989، اللتين هددتا مصالح الغرب، فما يوصف بالديمقراطية التوافقية التي طبقتها أمريكا على العراق، هو ذات ما تخططه للسودان، وهي ليست بديمقراطية حقيقية، ولكنه وضع يستمر فيه العرق والدين بالعمل في إطار دستوري وفق المصالح الأمريكية. عن الحركة الإسلامية وعن (العدوى بالفكر) قال د. الترابي في حوارنا معه – المذكور من قبل (المؤتمر الوطني كيان واسع والرؤية لا تشمل حدود السودان ولأن العالم لا ينتهي عند القطرية والعالم قد ينتهي إلى حكومة عالمية وأعوّل كثيراً على الأممالمتحدة، وأنت لا تتدخل في شؤون الدول ولكن الأفكار لا تحدها الحدود والتدخل بالقوة محظور ولكن الأفكار من طبعها الانتشار وأنت تنشر أفكاراً عبر الراديو و التلفزيون وكل العالم يفعل ذلك، وكنت أقدِّر امتداداً واسعاً للحركة الإسلامية يتجاوز حدود السودان). هذا عن الفكرة وانتشارها بالعدوى عند دكتور الترابي، وهو أمر يُكيِّف كلاً من الحزب الشيوعي السوداني، والحركة الإسلامية في السودان، فخطر التمكن الاشتراكي والإسلامي في السودان، هدد مصالح الغرب باحتمال انتقال عدواه إلى دول الجوار. وأيضاً قال د. الترابي في الحوار عن إيمانه بالتأثير الحركي للحركة الإسلامية إقليمياً وعالمياً (الحركة الإسلامية ابتدأت ودأبها التمدد إقليمياً ثم قارياً حتى تسع العالم، وهذا هو إيماني بالتوحيد، درجات درجات). درجات درجات (وخطوة خطوة يا شيخ حسن، وجبتو لينا الأمريكان في بطن البيت، شعبي ووطني .. لا نستثني منكم أحدا) .. صحيح أنك أردت الحوار مع أمريكا (بفهم)، لثقل وجودكم وتأثيركم (الشخصي)، على الحركات الإسلامية خارج السودان ولكن (الأمريكان ما بُلدا) فأصبحت أنت خارج (السلطة) المقصودة من جانبكم كقوة (نواة) تتمدد على مستوى العالم، بحسب قولكم في الحوار المذكور (أن تسع الحركة الإسلامية العالم). أرادها د. الترابي (أممية) لم يحتمل الجناح الآخر تكلفتها، فأبعد الترابي، وعليه مثل الحزب الشيوعي كان للعامل الخارجي أثره المدمر على الحركة الإسلامية، بالانقسام. إذن (أممية) د. الترابي استثارت رغبة أمريكا والغرب في تفكيك السودان وإعادة تركيبه لمحاصرة الحركة الإسلامية، وأيضاً فإن الذاكرة الإمبريالية الغربية لم تسقط تجربتها مع الحزب الشيوعي في السودان .. ومن ثم أصبح السودان وقواه العقدية هدفاً لتفكيك (البوابة الناقلة للعدوى وإعادة تركيبها من جديد). مارست أمريكا وحلفاؤها الغربيون (خاصة بعد عودة توثيق الروابط بينهم بعد تجربة أمريكا المنفردة في العراق .. فجاءوا السودان كعصبة استهدفت دارفور في مخطط التفكيك والتركيب)، مارست أمريكا وحلفاؤها الضغط على حكومة الإنقاذ انتهاءً عند محطة انقسام الإسلاميين، وانتهاءً عند محطة نيفاشا لينطلق من رصيفها قطار تفكيك السودان وإعادة تركيبه وفق التصنيف العرقي مثلما فعلت أمريكا في العراق (ذات التوجه العقدي المعدي، مثل السودان) ممهدة لذلك بالحصار الاقتصادي بغرض إثارة سخط مكونات الشعب العراقي على النظام واحتمائها أكثر وأكثر بطوائفها وأعراقها تمهيداً لتكريس الوضع العرقي والطائفي في دستور ما بعد الاحتلال. فتوصيف د. رشيد عمارة الزيدي، رئيس قسم الدراسات السياسية بجامعة النهرين، بغداد .. في دراسة حملت عنوان – أزمة الهوية الوطنية العراقية في ظل الاحتلال – المجلة العربية للعلوم السياسية عدد ربيع 2007. يكاد ينطبق (تفصيلاً) على السودان .. الموعود بالتدخل الدولي في حال تجدد الحرب بين شماله وجنوبه، يقول الزيدي (تجدر الإشارة إلى أن الولاياتالمتحدة والعالم الغربي قد مهدا لتفكيك رموز الهوية العراقية قبل احتلال العراق ولاسيما في حقبة التسعينيات عندما فرضت الأممالمتحدة حصاراً اقتصادياً على العراق ليس له نظير في التجارب العالمية وضرب هذا الحصار في عمق النفس العراقية، و سخّر العالم الغربي ماكينته الإعلامية للتعميق من أزمة العراق وتفكيك رموزه، عندما ركزت على قضيتي «اضطهاد الأكراد» «ومظلومية الشيعة» بغية دق إسفين بين المكونات الاجتماعية العراقية على حساب الوحدة الوطنية). في المقابل حاصر العالم الغربي السودان اقتصادياً (فزاد الطين بلة) في المركز والهوامش، وذلك بدوره ساعد في شدة دوران ماكينة الإعلام الغربي للتحدث عن مظالم النوبيين والفور والنوبة والبجا (فدق الغرب بذلك إسفينا بين المكونات الاجتماعية في السودان، على حساب الوحدة الوطنية) كما قال الزيدي عن حالة العراق. عملت أمريكا وحليفها قرنق على تأجيج نيران دارفور تزامناً مع نيفاشا لتضاف دارفور إلى المناطق الثلاث المخصوصة بالمشورة الشعبية: النيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي، كمرحلة ثانية بعد انفصال الجنوب وفوزه بمكاسب على حساب الشمال، ضمنها تبعية منطقة أبيي للجنوب، تمهيداً لاستفتاء تقرير مصير الجنوب بالانفصال كخطوة أولى في مخطط تفكيك السودان، وهذا يقودنا مباشرة إلى الحاضر الراهن (وأخباره المتجددة): أبيي والقضايا العالقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وعلاقة ذلك بمخطط التفكيك. جاء في صحيفة أخبار اليوم 28/11 عن الاجتماع الرئاسي بشأن أبيي أن الاجتماع قد انعقد بناءً على اقتراح طُرح في قمة الإيقاد الأخيرة بأن يقدم ثامبو أمبيكي، رئيس لجنة حكماء أفريقيا، مقترحاً للشريكين لتجاوز الخلاف حول قضية أبيي وهو مقترح إضافي للمقترحات السابقة التي تم نقاشها في مفاوضات أديس أبابا الأخيرة، وقال أمبيكي (تقدمنا بمقترحات مكتوبة للطرفين من أجل الوصول لاتفاق حول المشكلة، وبما أن الطرفين كما هو واضح قد تلقيا هذه المقترحات للمرة الأولى، فمن الطبيعي أن يكونا في حاجة إلى مزيد من الوقت لدراستها والنظر فيها، ومن ثم فقد تم الاتفاق على أن يقوم الطرفان بمناقشة تلك المقترحات بصورة تفصيلية، وبناءً عليه فسوف يُعقد اجتماع آخر خلال أسبوع وذلك لتلقي ردود الطرفين حول هذه المقترحات)، وقال أيضاً إن تفاصيل هذه المقترحات ستكون متاحة في الأسبوع القادم، رافضاً الإفصاح عنها). رفض أمبيكي الإفصاح عن المقترحات فهل لمّح بها باقان أموم .. جاء في جريدة الصحافة 25/11 (أكد باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية، استعداد الحركة لتقديم تنازلات من جانبها للوصول لصيغة اتفاق ينهي الجدل حول استفتاء منطقة أبيي، موضحاً إبلاغهم المؤتمر الوطني أثناء قمة إيقاد برغبتهم في إيجاد صيغة تكون بمثابة حل يتجاوز معضلة المنطقة، لافتاً النظر إلى أن الحل بالنسبة للحركة الشعبية موجود وواضح، ومع ذلك سيستمعون لمقترحات المؤتمر الوطني للحل ومن ثم يقررون ما الذي يمكن أن يُقدم من تنازلات من طرفهم). الحل الموجود والواضح عند باقان والحركة الشعبية، هو الحل الأمريكي المنحاز للحركة، ويشرح ذلك قول باقان (إن الحركة الشعبية تنتظر وترحب بقرار رئاسي بشأن منطقة أبيي إذا ما جاء وفق الرؤية الأمريكية الداعمة لتبعية أبيي للجنوب مقابل بقاء القبائل الأخرى فيها وتمتعهم بحق المواطنة الكاملة). ما هي العلاقة بين مقترحات أمبيكي، والمقترح الأمريكي للحل الذي قال به باقان؟ هل ستكون هنالك مقاربة (بمقايسة وضع سكان أبيي من المسيرية و دينكا نقوك، مقايسة تتسم بمعقولية تحفظ حقوق القبيلتين؟ .. فالحرب قد تتجدد بسبب موقفهما الحقوقي القبلي)، والمنطق يقول بأن الحكومة لن تقبل بتبعية أبيي للجنوب، فوجود المسيرية كمواطنين في الجنوب بتبعية أبيي له، تجعلهم رهائن بمنطق سلفاكير وباقان عن أبيي تابعة للشمال، معكوساً، و هو وضع لن يقبل به المسيرية. ما هي حقيقة قول باقان (إن الحركة الشعبية لمست من الوسطاء قبول المؤتمر الوطني بهذه الفدية – على حد قوله – على أن يُرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع الحصار الاقتصادي المفروض عليه علاوة على تجميد قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن السودان). في المقابل وفي ذات الخبر المنشور بجريدة الصحافة، نفى حزب المؤتمر الوطني على لسان الدرديري محمد أحمد، وجود أي صيغة بشأن ابيي مع الحركة الشعبية ووصف حديث باقان (بالتهريج)، وفق شبكة الشروق، وأكد الدرديري أن الحكومة سبق وأن رفضت الحوافز الأمريكية التي تحدث عنها باقان، فما هو وجه الحقيقة في كل هذه الأقوال؟ أيضاً جاء في صحيفة أجراس الحرية بعدد الأمس 30/11 (بأن مصادر سودانية مطلعة كشفت للصحيفة أن ثامبو أمبيكي عرض على الشريكين، في اجتماع المجلس الرئاسي السبت الماضي، ضم أبيي لجنوب السودان بقرار رئاسي مقابل إعطاء قبيلة المسيرية ثلث أبيي). حديث أمبيكي السابق يقارب تلميح باقان، سالف الذكر .. فهل يكون الخبر الذي أوردته أجراس الحرية صحيحاً؟ وفي حال تأكد صحته هل يرضى به المسيرية؟ ولو ربط المؤتمر الوطني بين تسوية مشكلة أبيي ورضا المسيرية، فلأنه يدرك حساسيتهم تجاه الأرض. وتبقى حقيقة أن الانخداع بما تعرضه أمريكا من رفع للعقوبات الاقتصادية عن السودان، وربط مقترحات أوباما المقدمة للخرطوم بين رفع العقوبات واستفتاء وسلامة انفصال الجنوب .. ذلك يعني إعطاء أمريكا (شيك على بياض) فبعد الاستفتاء لن تُرفع العقوبات وستظل جبهة دارفور مفتوحة. في مؤتمره الصحفي المنعقد بالخرطوم .. مؤخراً (نشرت نصه أخبار اليوم، بعدد الأمس 30/11)، نفي باقان أموم وجود الحركات المسلحة الدارفورية بأرض الجنوب .. وقال عن وجود مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان بمدينة جوبا، إن لمناوي مشاكل مع المؤتمر الوطني وقرر المكوث بالمدينة كمواطن له حق التواجد في أي مكان بالسودان ولا يمكن منعه لأن المؤتمر الوطني يرغب في ذلك. تواجد مني بمدينة جوبا لا يمكن فصله من اللعبة الدولية في السودان .. ولو كان نفي باقان لوجود حركات دارفور بجوبا، صحيحاً، فلماذا ضغطت أمريكا وفرنسا على قادة هذه الحركات للتوجه إلى جوبا، وذلك قبل أشهر قليلة من الآن؟ كل هذه الوقائع تقودنا إلى مخطط تفكيك السودان وإعادة تشكيله من جديد، وفقاً لمعيار العرق والدين، وما الحركة الشعبية سوى مخلب قط لتنفيذ هذا المخطط، ولربما تخطط أمريكا وحلفاؤها للأبعد لو تجددت الحرب بين شمال السودان وجنوبه بوضع السودان تحت الوصاية الدولية بتدخل الأممالمتحدة وقواتها المتواجدة أصلاً في أراضيه، وسبق لغرايشن، مبعوث الرئيس الأمريكي أوباما، إلى السودان، أن هدد الحركة الشعبية بأن أمريكا لن تقف إلى جانبها لو تجددت الحرب .. أمريكا لن تقف إلى جانب الحركة ولكن سيكون التدخل تحت مظلة الأممالمتحدة، مؤكداً.