كانت شعوب العالم غارقة في جهلها وتخلفها في فترة ما تسمى العصور المظلمة، حتى أتى الإسلام وأيقظ تلك الشعوب من نومها، ففتح أوروبا ودخل أفريقيا وتمدد في آسيا، فكان سبباً في نموها وتطورها وله الفضل في ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم وازدهار، لكن الأوروبيين لم يسلموا تسليماً كاملاً لهذا الغازي الجديد، فكان خضوعهم خضوع الضعيف للقوى، وظل الغربيون يضمرون السوء للمسلمين متحينين فرصة الانقضاض عليهم، والمسلمون في غفلة عن ذلك بسبب إقبال الدنيا عليهم واتساع الرقعة الإسلامية، فبدأ الضعف يدب في مفاصل الدولة والمسلمين مما أغرى الصليبيين بالاستعداد لمواجهة المسلمين والقضاء عليهم واستئصالهم، فحدث ذلك في الأندلس وكانت الإبادة الجماعية وطمس الهوية ومحاربة كل ما هو إسلامي. فعل الصليبيون كل ذلك لأنه ليس في فكرهم واعتقادهم أن هناك من هو أكثر منهم أموالاً وأعز نفراً وأفضل في طريقة الحكم، حتى يتفوق عليهم ويحكمهم ويسيطر على بلادهم، ناهيك عن أن يساويهم بالآخرين، فخاضوا حروباً شتى على المسلمين وأخرجوهم من أوروبا وأذلوهم في الشام، ولا زالت الحروب مستمرة، الظاهر منها والمستتر، ولم يلقوا السلاح بعد، وباتوا يتلونون حسب الطلب ويتشكلون حسب الحال، حتى هداهم تفكيرهم إلى فكرة الاستعمار التي بسطوا بها نفوذهم على كل شعوب العالم مستغلين ثرواتها وجهود رجالها، فمكثوا هناك عشرات السنين لم يعملوا فيها عملاً أو يأسِّسوا ما يجعل تلك الدول تمشي على رجليها، وكل الذي فعلوه يصب في أن تظل تلك الدول تابعة لهم في نمط حياتها واقتصادها وثقافتها، حتى بعد خروج المستعمر، فانشأوا منظمات إقليمية ودولية لتدفع في نفس الاتجاه، فخرجوا من الدول المستعمرة وتركوها هكذا تُدار عن بعد، لكنهم في نفس الوقت لم ينسوا أن يزرعوا ما يسهل قطافه مستقبلاً عن بُعد، أو ما يستدعيهم ليعودوا مرة أخرى غازين محتلين. فكانوا في كل تلك الفترات إذا حاربوا أو تحاربوا يكون ذلك من أجل مصالحهم، ولو على حساب مبادئهم وشعاراتهم، وإذا سالموا كذلك كان الذي يدفعهم للسلم هو نفسه الذي دفعهم للحرب. واستمر الحال كذلك والعالم مقسَّم في ما بينهم حتى ظهر الاتحاد السوفيتي، فقسَّموا العالم إلى معسكر شرقي وغربي، والكل متربص بالآخر ويريد أن يوسع دائرة نفوذه في العالم، مما جعل الدول والشعوب تعيش أحسن أوقاتها خلال فترة ما سميت بالحرب الباردة. لكن الغرب كان أشد مكراً وتربصاً بالاتحاد السوفيتي، وأخذ يحيك المؤامرات السرية ويقوم بالأعمال التجسسية التي تعينه على معرفة مواطن الضعف في الاتحاد السوفيتي، على أن يميل عليه ميلة واحدة، وأخيراً كان للغرب ما أراد، فانهار الاتحاد السوفيتي وتفرق، مما أتاح لأمريكا والغرب فرصة لينفردوا بالعالم بسياسة شعارها المصلحة فوق الجميع وفوق كل ميثاق وكتاب مقدس، فتهاوت الشعارات وسقطت المثل والأخلاق وقامت على أنقاضها مقولة بوش: «من ليس معنا فهو ضدنا»، هذه المقولة بررت لأمريكا أن تجوس خلال الديار تقتيلاً وتشريداً ودماراً أدى إلى ما نحن فيه من هرج ومرج وفوضى عمّت كل العالم وأثّرت على اقتصاده وعلى تعاونه وتواصله، فصارت الهوة سحيقة ما بين الحكومات العميلة للغرب والشعوب، وما بين الغرب وشعوب العالم. فعل بوش والأوروبيون كل ذلك بعد أن بدأت تلك الفتن التي زرعوها في العالم تتحرك فأغرتهم مرة أخرى للتدخل والغزو وانتهاك سيادة الدول، وأضافوا أسباباً أخرى تدعم تدخلهم وحروبهم، وأكثرها مفبركة ومطبوخة في مطبخ استخباراتهم وعملائهم، منها محاربة الإرهاب وإشاعة الديمقراطية في العالم. فعلوا كل ذلك بعد أن هيمنوا على كل شيء في الاقتصاد والسياسة والقوة، داعمين تلك الهيمنة بالآلة الإعلامية الضخمة ذات الفكر القائم على التضليل والتشويش على الشعوب وتزيين تلك السياسات والترويج لها، فانطلى ذلك على الشعوب إلى حين. لكن التطور الذي طال كل شيء لم ينس الإنسان وتفكيره وفهمه ووجدانه، فبدأ إنسان هذا الزمان يفهم غير ما يريدون ويفكر بغير ما يرغبون ويحلل ما يسمع ويتعمق في ما يشاهد ولا يسلم لما يقرأ، ويخرج من ذلك بفكرته الخاصة وفهمه الذاتي، والغربيون عن ذلك غافلون. فبدأ ذلك الوعي من داخل أوروبا وصميم أمريكا، حيث بدأت ترتفع أصوات تنادي بعدم التدخل في شؤون الدول، رافضةً حرب العراق وغزو أفغانستان والحرب على غزة وكثير من السياسات، وتأكيداً لرفضهم هذا بدأ بعضهم يسرّب بعض الوثائق التي تدلُّ على سياسات الغرب الظالمة وتسفر عن تزوير الحقائق وفبركتها لتوجيه التهم ضد الدول والأفراد، وآخرها موقع «ويكليكس» الذي نشر أكثر من (400) ألف وثيقة يكشف فيها ما حدث من فظائع في العراق وإبادة وتجاوزات، حتى وصفها نائب الرئيس البريطاني بأنها خطيرة ومؤلمة، واعترف الناطق الرسمي باسم البنتاغون «غوف مورال» بصحة تلك الوثائق، وقبلها نشر موقع «ويكليكس» نفسه (90) ألف وثيقة عن حرب أفغانستان، وبيده الكثير للنشر. هذه التصرفات مجتمعة من الغرب جعلت العالم يعد نفسه لانتفاضة كونية لم يرتب لها ولا لزمانها، ولم يتفق عليها، لكنه الشعور العام الذي اجتاح العالم ليمهد للانتفاضة الشاملة المرتقبة التي لا تترك براً ولا بحراً.. انتفاضة سلمية سلاحها التمرد ورفض لكل أنواع الظلم الذي تمثله سياسات الغرب وعملائه في المنطقة من حكام وجماعات وأفراد، وقد بدأت بوادرها من داخل أوروبا وأمريكا، فتحركت الشوارع الفرنسية واليونانية والبلجيكية وغيرها، رافضة السياسات المالية، وكذلك كانت المظاهرات التي خرجت في أوروبا داعمة لغزة، وفاقت ما خرج في الدول العربية والإسلامية، ثم قافلة الحرية التي مثلت عالماً مصغراً ضد الظلم والهيمنة. وهذا الرفض يعني الكثير، فلو كانت الشعوب تثق في أن الحكومات تفعل ذلك لأجلها لما تظاهرت ضد حكومات ديمقراطية أتت بها الشعوب نفسها، لكنه وميض النارتحت الرماد.. وفقدان الثقة الذي له توابعه. حتى التحدث عن الإرهاب وتخويف الأوربيين منه بات غير مقنع، وقد قالها المستطلعون الأوروبيون على الشاشات إن الحديث عن الإرهاب وتوقع حدوث عنف ما هو إلا حديث لتخدير الأوروبيين لتمرير بعض السياسات، وفي أحايين كثيرة يفتعلون بعض الأعمال الإرهابية. الانتفاضة الكونية بدأت بأوروبا وظلت زاحفة فظهرت في آسيا بتمرد إيران وتفلت تركيا وتجاوب فنزويلا والبرازيل، كما وصل تمددها إلى افريقيا برفضها كثيراً من السياسات الغربية وآخرها رفضها قرارات المحكمة الجنائية واستقبال بعض الدول للبشير، حتى الشعوب المكبوتة في كل مكان بدأت تكسر الطوق وتعبر عن رفضها بطريقة أو بأخرى. الانتفاضة الكونية مستمرة في تحركها وزحفها وحشدها التلقائي للشعوب، وسوف تبلغ ذروتها يوماً ما، وسوف يعقب ذلك الانفجار المدوي، وعلى الجانب الآخر الغرب سادر في غيه وغير آبه ولا منتبه ومستمر في سياساته التي تغذي تلك الانتفاضة وتعبئها وتهيؤها لساعة الصفر. يفعل الغرب ذلك لأنه مغتر ومستقل برأيه و(متفرعن).. يفعل الغرب ذلك لأن القدر يعمي البصر ولأنه «المقتولة لا تسمع النصيحة»