سطع نجم المحامي علي السيد في فضاءات الساحة السودانية من خلال دوره المتعاظم في تجمع الداخل المعارض وسط أقاويل تشير إلى أن مواصفات الكتمان ومزايا القدرة التنظيمية قد جاءت به إلى هذا الموقع. غير أن الرجل تبدو عليه مقدرة تميزه عن الكثيرين؛ فهو يتحرك بطاقة واسعة ومواقفه قاطعة وحاسمة تجاه القضايا الوطنية وما يجري في حزبه. «الأهرام اليوم» حاورته حول مضامين عديدة لامست عملية التسجيل لاستفتاء جنوب السودان وقضايا الاتحادي الأصل. واللقاء معه كان مفتوحاً وموجعاً وجاءت بعض ردوده وكأنه يقدم لنا مفتاحاً ويكشف لغزاً وهو يؤكد بالأدلة بطلان حق المصير الموجود في نيفاشا على نموذج الدولة السودانية. { مارثون عملية التسجيل لاستفتاء تقرير المصير لجنوب السودان على مشارف الانتهاء. كيف ترى المآلات؟ - اللوحة لا تحتاج إلى كبير عناء للإفصاح بأن الانفصال صار قاب قوسين أو أدنى في حسابات الواقع، بل يكاد المرء يلمس بأصبعه جدار الدولة الجنوبية المجاورة للشمال وهو مسك ختام يؤرق النفوس التي ظلت على الدوام تتوق الى ترسيخ الوحدة والتعايش السلمي بين الشماليين والجنوبيين في رحاب السودان الموحَّد. الآن أرى دقات الساعة تشير إلى قرب اللحظة المؤلمة التي تعني التفريط التاريخي باقتسام الوطن إلى دولتين. فالمسرح السوداني يتشكل على الأوضاع المزرية والأجواء الكارثية المصحوبة بالدخان الكثيف والأعصاب المشدودة. وتزداد الصورة إيلاماً وتتأطر الفضاءات الواسعة في مقدار اللوعة والجزع عندما تتضح الحقائق التي تفيد بأن عملية تقرير المصير الواردة في نيفاشا تتعارض جملةً وتفصيلاً مع المواثيق والأعراف الدولية قياساً على نموذج الدولة السودانية الذي ينطبق عليه فقط حق تقرير المصير الداخلي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى النظام الفدرالي أو الكونفدرالي، بعكس ما جاء في نيفاشا. { إذا كان رأيك، الذي لا يخلو من المفاجأة صحيحاً، فما هي حجتك بأن نموذج الدولة السودانية لا ينطبق عليه تقرير المصير الوارد في نيفاشا؟ - (اعتدل في جلسته وقال): شوف.. نحن دولة ذات سيادة لكننا ما زلنا أمة تحت التكوين وهنالك حروب وإشكاليات موجودة في بلادنا. فالأعراف الدولية في هذا الواقع لا تجنح إلى معالجة سياسية قد تؤدي إلى الانفصال وتضع الوحدة في مهب الريح، بل تفضل الحل عن طريق الكونفدرالية أو الفدرالية؛ لأن الحروب يمكن إيقافها بالإرادة السياسية القوية، وإشكاليات التباين العرقي والديني موجودة في معظم الدول ولم تؤطر إلى الانفصال فلماذا السودان؟ فهل المسألة مقصودة؟ ويجب النظر بإمعان إلى بروتوكول ميشاكوس الذي انبنت عليه نيفاشا؛ فهو قسم البلاد على أساس ديني وكان بالإمكان تجنُّب ذلك ضمن معادلة الدولة الدينية. وهنالك نقطة مهمة مفادها أن موقع السودان كجسر بين دفتيْ أفريقيا، شمال وجنوب الصحراء، يؤهله لأن يكون موحَّداً بروح المواثيق الدولية، فكيف تطبَّق عليه نصوص نيفاشا التي تؤدي إلى الانفصال أكثر من الوحدة الجاذبة التي وردت في الاتفاقية مثل «تمومة الجرتق»؟! { كأنك تريد أن تقول بأن الشريكين لم يدركا تلك الأبعاد عندما وافقا على بند تقرير المصير الوارد في الاتفاقية؟ - لا.. كل طرف يعمل على تنفيذ الأجندة التي تؤدي إلى الانفصال من وحي هواه ورغبته، علاوةً على أن القوى الخارجية أو الشركاء لهم مصلحة بقيام دولة جنوبية منفصلة في سياق مشروع إعادة ترتيب منطقة البحيرات. { لكن المؤتمر الوطني يبدو حريصاً على الوحدة بشكل لافت في حين لا تخفي الحركة الشعبية رغبتها الجامحة نحو الانفصال؟ - المؤتمر الوطني يتراءى في إطار الصورة حريصاً على الوحدة أكثر من الحركة الشعبية، هذا صحيح فهم أذكياء يعرفون إدارة المطبخ من وراء الغلالة!! فالمؤتمر الوطني يريد بترول الجنوب ويرفض إنسان الجنوب!! ويمكنك الرجوع إلى برنامج الحركة الإسلامية وهو الخط الإستراتيجي للمؤتمر الوطني تجد نظرتهم حول ضرورة فصل الجنوب حتى يتسنى تطبيق الشريعة في الشمال دون إشكاليات. { نزلت دمعة من عيني باقان أموم وهو يتفاعل مع النشيد الوطني لجنوب السودان. هل دمعة باقان تمثل مشهداً سينمائياً أم وجدانياً؟ - كلاهما صحيح؛ لأن باقان ظل يستخدم الإبداع الاستعراضي لتغليب الانفصال ويضرب الأوتار الحساسة لدى الجنوبيين لقيام دولتهم الموعودة وهو الحصان الجامح في دفع عملية مشروع الدولة الجنوبية إلى الأمام وإن كان أحياناً يحاول إخفاء تلك الحقائق. دمعة باقان قد تعني بأن أشواقه في الانفصال في طريقها لمعانقة أرض الواقع!! لكنه لا يدري كم هو مخطئ في الحسابات الدقيقة ويومذاك ستنزل من عينيه دموع الندامة! { البعض يتحدث عن سيناريو مُعد من المجتمع الدولي يتنزل على الساحة السودانية بعد قيام دولة الجنوب؟ - أعتقد أنهم يفكرون في العمل على فصل إقليم دارفور من السودان ويمكن إطلاق «نيفاشا تو» على السيناريو القادم. { المؤتمر الوطني عندما ينفرد بالشمال، كيف ستكون خياراته؛ الاقتراب بلطف مع القوى السياسية، أم العودة إلى المربع الغليظ؟ - المؤتمر الوطني جرّب في المرات السابقة محاولة اصطفاف القوى الشمالية إلى جانبه لكنه لم ينجح وقد يسعى إلى قراءة الطقس في المسرح السوداني بعد الانفصال لتحديد مساراته. بعض رموزه فكروا في مد الجسور مع حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الترابي لكنه استعصى عليهم. الأوضاع الاقتصادية المترتبة على فصل الجنوب قد تجعل المؤتمر الوطني يرمي إلى تقليص الوزارات الحكومية إلى (15) وزارة حتى يتسنى توفير التكلفة المالية التي كانت تذهب للدستوريين الجنوبيين. ولا أعتقد أن المؤتمر الوطني سيكون متسامحاً إذا حاولت القوى السياسية التصادم معه، سيتعامل بالأدوات القديمة؛ فهم يريدون البقاء في السلطة حتى عام 2016م. { هل تتوقع مشاركة الاتحادي الأصل في السلطة بعد الانفصال؟ - لا أعتقد أن حزبنا سوف يشارك في السلطة بعد الانفصال. لقد كانت لنا تجربة مريرة مع المؤتمر الوطني لأنهم رفضوا أن يكون تمثيلنا على قدر وزننا الحقيقي. { أنت تقول لن نشارك، لكن الواضح أن القرار في الاتحادي الأصل ليس في يد السياسيين المحترفين؛ فهنالك مراكز أخرى تمتلك قوة التأثير في الحزب؟ - (أجاب بغضب شديد): هؤلاء هم بعض خلفاء الطريقة الختمية الذين أصبحوا بين عشية وضحاها سياسيين محترفين في الحزب بعدما أهملوا الطريقة الختمية وتركوا أدبياتها ونظمها القائمة على الإرشاد والتقوى والإصلاح وصاروا أصدقاء للحكام يجرون وراء المصالح. وفي تقديري أن يعود هؤلاء للطريقة الختمية التي تعاني الآن من إشكاليات كثيرة وانحسار في التوهج حتى كادت تذهب إلى غرفة الإنعاش. أيضاً من المظاهر المؤسفة وجود قيادات جاءت للحزب بعد المعاش في الخدمة المدنية، خاصةً الذين كانوا في القوات النظامية، فهؤلاء تربُّوا على الطاعة وتنفيذ الأوامر ولا يصلحون للعمل السياسي القائم على الإبداع والشفافية وتشغيل العقل. { المؤتمر الاستثنائي المرتقب لحزبكم في الربع الأول من العام المقبل، كيف ستكون ملامحه؟ وهل سيساعد في إصلاح الصورة الحالية للاتحادي الأصل؟ - من الذي قال لك إن المؤتمر الاستثنائي الذي ذكرته مسألة حقيقية؟ الشكوك تملأ جوانحي حول صحة المعلومة، اللهم إلا إذا جاءت ضغوط من مجلس الأحزاب أو وجود أشياء مرتبة! على المستوى الشخصي أرفض المؤتمر الاستثنائي لأنه سيعيد إنتاج الأزمة ولن يقدم شيئاً؛ خصوصاً إذا قامت بالإعداد والتحضير له عناصر الطاعة والولاء. وقد تكمن الفائدة المرجوة في قيام مؤتمر عام يكون الاختيار له من القاعدة إلى القمة بوجود جميع التيارات الاتحادية دون محاباة وإقصاء حتى يمكن وضع البرامج والهياكل العصرية وصولاً للمخرجات التي تليق بحزب الوسط الكبير. { هل تعتقد أن مولانا يمكن أن يتعاون في المستقبل مع الشريف صديق الهندي وجلاء الأزهري؟ - لا أعتقد أن الباب مغلق لدرجة القلق والتحسر، هنالك خصوصية ومزايا موجودة عند الشريف صديق الهندي وجلاء الأزهري في خارطة الحركة الاتحادية لا يمكن الاستغناء عنها لخلق البوتقة الجامعة لحزب الوسط الكبير. { هل تتوقع وصول مولانا محمد الحسن الميرغني إلى موقع خلافة والده في الاتحادي عن طريق التوريث أم الانتخاب؟ - لقد عملت جنباً إلى جنب مع مولانا محمد الحسن الميرغني عندما كان يترأس لجنة الانتخابات في الحزب ولمست منه التواضع الشديد والانحياز الواضح للتشاور ولغة الحوار والمحاججة. كان يتعامل بعقلية عصر الهندسة الوراثية يريد حزباً عصرياً متطوراً نتباهى بدوره الباذخ في المسرح السوداني. شخصية مولانا محمد الحسن لن ترضي برافعة التوريث؛ لذلك أقول بكل ثقة إذا جاء الوقت المناسب ليكون رئيساً للحزب فإن مولانا محمد الحسن سيحصل على الموقع بالانتخاب الحر المباشر. { هنالك مجموعة في الاتحادي الاصل لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ظلت تهاجم مولانا محمد الحسن الميرغني بضراوة، فما هو تفسيركم؟ - هؤلاء خائفون والرعب يخترق أوصالهم ليس إلا. فالشاهد عندما أعلن مولانا محمد الحسن برنامجه الإصلاحي ومعركة البناء والتغيير جاءهم إحساس غامر بأنهم في طريقهم إلى المصيدة! هنالك قناعة راسخة يجب على الأشقاء في الحزب إدراكها، مفادها أن وجود البيت الميرغني الكريم في زعامة الاتحادي الديمقراطي علامة منقوشة في التاريخ بعد الآن لن تتغير مع الزمن، وعلى الذين يهاجمون مولانا محمد الحسن الميرغني التأمل في هذه المعادلة. { إذن، كيف ترى دلالات نظرية مولانا محمد الحسن التي تنادي بإبعاد الخيول المرهقة في الحزب إلى ماعون الاستشارة؟ - هي فكرة ذكية تنضح بالواقعية والتحديق الصحيح في الفضاءات البعيدة. لا مجال الآن للرجوع إلى الوراء في ظل الطوفان الذي لا يرحم الخيول العجوزة في العالم المتطور والسباقات الخاطفة. ماعون الاستشارة يعني التكريم والاعتناء بالخبرات والتجارب ولا يعكس إشارات الإهمال وإدارة الظهر ونكران الجميل. { سؤال أخير: البعض يرى أن علي السيد شخصية مشاكسة تكسر الجدول وتتجاوز الخطوط الحمراء حيال التعامل مع مولانا؟ - أنا لستُ رجلاً مشاكساً، ودائماً مواقفي مرتبطة بقناعاتي، لا أعرف النفاق والتدليس وأفصح في الهواء الطلق عن ما لا يعجبني، لكن ذلك قد يغضب الآخرين. ومن يُمن الطالع أن مولانا محمد عثمان الميرغني يفهم طباعي بشكل ممتاز وهو يتجاوز عن أخطائي والغبار الذي أُثيره أحياناً، ومولانا له قولة مشهورة بأن حسنات علي السيد أكثر من سيئاته. وأنا فخور بذلك.