ويغني الراحل محمد أحمد عوض «جوبا مالك عليّ.. جوبا شلتي عينيّ» ويمضي خلفه الرائع النور الجيلاني «يا مسافر جوبا.. يا مسافر قوم.. خلِّي الخرطوم.. قوم بارحا.. جبل لادو كل الشافو أبداً ما نسو.. جوبا ياي..» إنها صور رسخت في عقول أهل شمال السودان فعشقوا الجنوب عبر مفردات كتبها شعراء الشمال حتى تجاوزت المائة وكلها تؤكد أواصر القربى والمصير الواحد. وبهذا الفهم رغم تداعيات الاستفتاء (السياسي) وما صاحبه من احتقان بين شريكي الحكم إلا أن حكومة المؤتمر الوطني مضت قدماً في إقامة آخر دورة مدرسية للسودان في حدوده الحالية بمدينة (واو) ورحبت الحركة القابضة على ولايات الجنوب العشر بالفكرة وجهز فلذات أكبادنا أنفسهم بالأناشيد والمسرحيات والأغنيات والمناشط الرياضية والنسوية في كل ولايات السودان وشدوا الرحال الى حاضرة بحر الغزال وهم في شوق لرؤية الأرض الخضراء التي عشقوها من خلال ما نظم الآباء والأجداد من عذب الشعر العامي والفصيح، وبعضهم هبط (الأرض المحرمة) والباقون في طريقهم إليها وفي مخيلتهم أشجار الجنوب الوارفة المعطاءة بثمار المانجو والدليب والأناناس وكل الثمار الحلوة، فالصغار يحبون الماء والخضرة والوجه الحسن. إلا أن خالهم باقان أموم تنكر (للخؤولة) وفطر قلوب الصغار وطردهم من (واو) الجميلة لأنه يحمل في رأسه عقلاً لا يعرف المرح مع الصغار الحلوين ولأنه ما زال يؤمن بعقلية الحرب وما زال يحمل شعار (واو نار) فجعلها ناراً على تلاميذ الدورة المدرسية الذين استعدت طيور الجنوب وفراشاته لاستقبالهم وكل قبائل بحر الغزال التي احتضنت الجيش السوداني إبان الحرب في معسكر قرنتي الشهير ولم تجرؤ على طرد أحد. والآن خرج الأطفال مثلما أُخرجت «الأهرام اليوم» من كامل تراب الجنوب حتى قبل الاستفتاء وإعلان الانفصال المحتوم الذي تعد له الحركة «جهراً». ونقول إن التاريخ لا ينسى فإن كان عدد تلاميذ الدورة المدرسية الذين طردهم باقان أموم وجلادوه من الانفصاليين بالجنوب لا يتجاوز الألفي طفل؛ فإن هؤلاء بعد عشر سنوات سيصبحون أمة تحكي لكل أهل السودان مأساة طرد الخال باقان لهم. وليعلم هذا الخال أن الأطفال الذين قام بطردهم ما زالوا يدرسون بمدارسهم في فخر وانبهار تاريخ شجاعة البطل علي عبد اللطيف وتمرد سلطان الدينكا على المستعمرين. إحدى الحبوبات عندما سمعت بقصة الطرد ردت على البداهة «باقان أموم إن شا الله ما ينوم» وهذه أولى الدعوات.