قلنا ونكرر إن انفصال الجنوب عن الوطن هزيمة لكل القوى السياسية، ولكل الأجيال التي تعاقبت على حكم السودان منذ استقلاله عن الحكم الثنائي منتصف خمسينيات القرن العشرين. مع تفاوت درجة هذه المسؤولية وحجمها. والذين يحسبون أن الانفصال المرتقب انتصار، سوف يكتشفون وبأسرع ما يمكن أنه كان هزيمة وأنه كان من المؤكد تجنُّب هذه الهزيمة لو لا غلواؤهم وضيق أفقهم وأنانيتهم وتقديمهم للأجندات الخاصة على الأجندات العامة. وسوف يندسون ويجترون الندم إلى ما لا نهاية. وأبرز المجاهرين الآن بالرغبة في الانفصال والتصميم عليه، هم الحركة الشعبية التي تحكم الجنوب ومنبر السلام العادل في الشمال- وقد تصوّر الطرفان أنهما بالانفصال المرتقب سيحققان ما كانا يصبوان ويدعوان إليه. وبينما كان منبر السلام العادل واضحاً منذ البداية بترحيبه بتقرير المصير الذي مُنح للجنوبيين والذي سوف يُفضي لا محالة إلى فصل الجنوب. وتمكُّن الشماليين من تأسيس دولتهم العربية المسلمة أو (المستعربة المتأسلمة) في الشمال الجغرافي، وأن الحركة الشعبية كانت كاذبة خادعة منذ بداياتها - أول ثمانينيات القرن الماضي- التي كانت وحدوية طامحة إلى إقامة سودان جديد على امتداد الأرض الرحبة من نمولي إلى حلفا ومن بورتسودان إلى الجنينة وحتى خواتيمها الانفصالية السافرة حيث يوغندا وكينيا وزائير أو الكونغو وإفريقيا الوسطى هم الأهل والعشيرة والعِزوة، وحيث الشمال والشماليين هم العدو والاستعمار. كيف استطاعت هذه الحركة أن تخدع مهمّشين أبرياء أنقياء وطنيين داخل السودان الشمالي ومحامين من أمثال الأستاذ غازي سليمان، وكُتّاباً مثل الواثق كمير، ومثقفين فطاحلة ومؤلفين جهابذة من أمثال الدكتور منصور خالد؟!. وكيف استطاعت أن تستغل حزبين كبيرين تاريخيين هما الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة في تمرير أجندتها التي تأكد الآن أنها أجندة انفصالية؟. وكيف انخدع الشعب العظيم، المعلّم بهذه الحركة الانفصالية إلى الدرجة التي استقبل فيها زعيمها الدكتور الراحل قرنق قبل خمس سنوات ذلك الاستقبال الطيب المعقول هنا في قلب الخرطوم؟. ولقد حاولوا أن يصوروه وطنياً من فئة علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وكنا نسمع ونقرأ ونضحك ونستغرب، فقد كان الضابطان الرائعان عبد اللطيف والماظ وحدويين صادقين كبيرين، وكانت وحدويتهما تشمل الوادي الخالد من نمولي إلى الاسكندرية. لكن ما سوف يقوله التاريخ عن الدكتور جون قرنق إنه كان زعيماً للحركة التي فصلت الجنوب عن الشمال وأن الحركة التي كان يقودها هي التي عطّلت استخراج البترول واستكمال قناة جونقلي، وما أكثر ما سوف يقوله التاريخ عن الحركة الشعبية وعن زعيمها الدكتور جون قرنق.