كما هو معروف، تم إعلان الحكم بالشريعة الإسلامية في السودان في سبتمبر من عام 1983م، في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، ثم جاءت (الإنقاذ) وأعلنت في العام 1990م تطبيق الشريعة الإسلامية، وربما حاول منظِّرو الحكم آنذاك كسب تأييد الشعب وتعاطف الأحزاب الإسلامية، طالما أن هذا كان شعارها في الحملات الانتخابية التي سبقت الإنقاذ (1986-1989م)، لكن بالمقابل أثار هذا الإعلان - وقئتذ - حفيظة مجموعات أخرى كانت تعتقد أن تطبيقها ربما يتقاطع مع بلد يتمتع بتنوعات ثقافية وعرقية، وفي الجانب الآخر اعتبرت بعض قيادات الحركة الشعبية أن إعلان الجهاد في الجنوب أحد أسباب اشتعال الحرب، ومنذئذ اشتدت المواجهات الحربية، وبدأ التذمر. أما الدول الغربية فقد دعاها إعلان الشريعة نظاماً للحكم في السودان إلى تصنيفه ضمن الدول (المارقة)، إلى أن تم إدراجه رسمياً ضمن الدول الراعية للإرهاب، على خلفية تسلّل بعض المجموعات الإسلامية واستقرارها في السودان، مثلما كان الحال بالنسبة لأسامة بن لادن، وبالمقابل لم تخفِ هذه الدول مساندتها ودعمها لدول خارجية إقليمية وجهات داخلية كانت تخشى حكم الشريعة.. ومع ذلك ظلت الأحزاب الشمالية المعارضة تنتقد حكم الإسلاميين وتتحدث عن مخالفته لقوانين الشريعة، بل إن أحد قادة الأحزاب تحدث عن أن شريعة الإنقاذ لا تساوي الحبر الذي كتبت به، فيما اعتبر إسلاميون آخرون، اختلفوا مع النظام، أن الشريعة أجهضت منذ الإطاحة بدستور 1998م، والتخلي عن الحريات والنظام الشوري، وهذا ما ظل ينفيه رموز النظام بشدة، الذين يعتقدون أن الاختلاف آنذاك لم يكن حول قضايا أصولية. واستمر الجدل هكذا حول مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية إلى أن توصلت الأطراف المسؤولة في الشمال والحركة الشعبية إلى اتفاق سلام في نيفاشا عام 2005م، اقتضى وجود دستور جديد عُرف بالدستور الانتقالي، وتم الاعتراف فيه بحقوق المواطنة ووجود نظامين؛ أحدهما في الشمال ويُحكم بالشريعة الإسلامية، وآخر علماني في الجنوب، ومنذ ذلك الحين صار موضوع الشريعة الإسلامية محل جدل وصراع، ومساومات أطلقها بعض قادة الحركة الشعبية مؤخراً كثمن للوحدة، لإنهم ليسوا مستعدين للبقاء في حكمٍ هويتهم فيه غير ممثلة، أو كما قال أحدهم. ومع اقتراب لحظة الاستفتاء، خرج الرئيس البشير أمس الأول بتصريح قاطع أثناء مخاطبته مواطني القضارف في احتفال أعياد الحصاد، قال فيه: «إن الشريعة ستكون المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور الجديد بعد مراجعته عند انفصال الجنوب، وتنقيته من أي نصوص غير إسلامية» حسب تعبيره. هذا الحديث وجد ردود أفعال واسعة وسط عامة الناس، الذين اختلفوا في تقديراتهم، حيث اعتبر بعضهم ألّا جديد في الموضوع باعتبار أن الشريعة مطبقة في الشمال أصلاً، بينما اعتقد آخرون أن هذا الحديث فيه رسالة لمجموعة محددة، بأن الحكومة ستكون حاسمة بعد انفصال الجنوب في ما يخص تطبيق الشريعة الإسلامية، حتى لا تفكر في القيام بأعمال من شأنها إجهاضها، وربما هناك رسالة أخرى للخارج مفادها إذا ساندتم الحركة الشعبية وضيقتم على الحكومة في الشمال؛ فإننا سنطبق الشريعة. حديث الشريعة أيضاً طرح مجموعة من التساؤلات في الشارع العام، من شاكلة: هل الشريعة لم تكن مطبقة في الشمال؟ على ضوء احتواء الدستور الانتقالي على وجود نظامين، وكلام الرئيس عن نيتهم مراجعة الدستور بعد انفصال الجنوب، وتنقيته من أي نصوص غير إسلامية. وفي أي سياق يمكن قراءة هذا التصريح؟ وماذا عن توقيته؟ وبدوري رصدت هذه الأسئلة وطرحتها على عدد من المراقبين والمهتمين بالمسائل الفقهية، ومن جانبه أكد زعيم جماعة أنصار السنة في السودان الشيخ أبو زيد محمد حمزة ل «الأهرام اليوم» في إجابته على هذه الأسئلة؛ أن الشريعة الإسلامية موجودة، لكن لم تكن مطبقة بحذافيرها، حيث كانت هناك بعض المجاملات. وأشار أبوزيد إلى أن حديث الرئيس فيه رد حاسم وقاطع على المجموعات التي لا تريد الحكم بالشريعة في الداخل، ورسالة لأعداء الإسلام في الخارج مفادها أننا لن ننتازل عن الحكم بها. وفي السياق قرأ د. إبراهيم ميرغني حديث الرئيس حول الشريعة في إطار المزايدات الحزبية، وكأنه أراد الرد على دعاوى المعارضة التي بدأت ترفع صوتها محملة المؤتمر الوطني مسؤولية انقسام السودان، وحول تطبيقها من عدمه في الشمال قال: «لا أرى مشكلة في التشريع». يوسف الكودة؛ رئيس حزب الوسط الإسلامي، أبدى تحفظات حزبه على هذه التصريحات حينما قال: «كنا نظن أن النظام بعد الانفصال إذا وقع، سيحرص على قضية الوحدة الوطنية، وهذا لا يتأتى من خلال تصريحات كهذه، فدستور البلاد أو جزء منه لا تحدده جهة واحدة أو حزب حاكم، وإنما يحدده أهل السودان الممثلون لأحزابهم السياسية»، واعتقد الكودة أن الرئيس لم يكن موفقاً في إطلاقه تلك التصريحات، وأضاف: «لأننا كنا نتوقع أن يدعو كل الفعاليات السياسية لتحديد هوية البلاد دون استثناء، كما أنه لا يجوز أن تفرض الشريعة على الآخرين فرضاً، فالقيم لا تقبل الإملاء حتى ولو كانت سماوية». أبو بكر عبد الرازق؛ القيادي بحزب المؤتمر الشعبي، من ناحيته لفت الانتباه إلى أن هذا التصريح يمثل إقراراً ضمنياً بأن ما تعاقدت عليه الحكومة في نيفاشا كان فيه استبعاد للشريعة وحاكميتها باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع، وأن ما توافقت عليه هو خيار العلمانية الذي بدا واضحاً في اتفاق مجاكوس الإطاري، وعبرت عنه نصوص الدستور الانتقالي، والحديث أيضاً يحمل تهديداً مبطناً، بأننا إن عدنا إلى الشريعة فسوف نعود إلى رمزها في السودان؛ د. حسن الترابي. ولم يستبعد أن يكون الغرض من هذا التصريح محاولة دغدغة مشاعر الإسلاميين بمختلف طوائفهم لامتصاص أية جذوة شعبية يمكن أن تؤدي إلى إسقاط النظام، لا سيما أن كل المؤشرات ما بعد الانفصال تؤكد على هذا. عثمان ميرغني؛ رئيس تحرير صحيفة (التيار)، ذهب في اتجاه آخر عندما قال ل«الأهرام اليوم» عبر الهاتف: «لا أرى جديداً، لأن الدستور الموجود ينص على الشريعة كمصدر للتشريع في الولايات الشمالية، لكن قد يكون الرئيس بهذا التصريح أراد التأكيد على وجودها حتى يزيل الازدواجية التي نصت عليها اتفاقية نيفاشا في حديثها عن حقوق المواطنة والحكم في الشمال والجنوب»، وأشار بدوره إلى عدم مناسبة الحديث في هذا التوقيت، لأن هذه القضية لم تكن الآن مثار سؤال وإثارتها بصورة استباقية للاستفتاء قد تعكّر الأجواء أكثر مما هي عَكِرَة، وهناك رسالة سلبية قد تصل إلى بعض المجتمعات الأخرى، مضمونها أن البلاد تتجه نحو التعسف في تطبيق كثير من القوانين. وبعد.. هل حقاً (الشمال) في طريقه إلى أن يكون دولة إسلامية سلفية كاملة النقاء.. بعد انفصال جنوب السودان.. وما تأثيرات ذلك على المنطقة الأفريقية والعربية؟؟