وأنت عائد إلى الجنوب، خذ معك جوال ذرة وجوال عدس؛ حتى لا يأكل أولادك (نيم). هكذا أوصى جنوبيون استغنوا عن الشمال وعادوا إلى أرضهم ففوجئوا بصعوبات جمة هناك، فتسللوا إلى الخرطوم في ظل رقابة مشددة مفروضة عليهم من حكومات الولاياتالجنوبية للبقاء بوطن يتخلَّق نحو دولة ناشئة، تنتاشه حروب المنشقين عن الجيش الشعبي والمجموعات القبلية وجيش الرب ومجموعات المسيرية. واعترفت حكومة الجنوب نفسها بصعوبات تواجهها في إسكان العائدين طوعاً، وتوفير الخدمات لهم، في وقت لم يتعد عددهم (50) ألفاً، مما يعني مضاعفة المعاناة ثلاثة أضعاف إذا صحت توقعات الأممالمتحدة بعودة (150) ألف جنوبي إلى موطنهم بحلول مارس المقبل. ورغم توفير حكومة الجنوب (33) مليون جنيه سوداني، وترتيبها لتوفير (30) مليوناً أخرى لذات الغرض، ونداء الأممالمتحدة الذي أطلقه نائب الممثل الخاص للأمين العام بالسودان منسق الشؤون الإنسانية؛ جورج شاربونتيه، لتوفير (63) مليون دولار للعودة إلى الجنوب.. رغم كل ذلك تكشفت سوْأَة ترتيبات مفوضية العودة الطوعية وحكومة الجنوب؛ بنسيان (5) آلاف و(780) جنوبياً عالقين بميناء كوستي منذ أكثر من أسبوعين، يعانون نقصاً حاداً في الغذاء والخدمات الصحية، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، مما حمل حكومة النيل الأبيض تعمل على تخيير حكومة الجنوب بين ترحيل العالقين إلى موطنهم أو إرجاعهم إلى الشمال خوفاً من تحديات أمنية وبيئية. ويحتاج العالقون إلى جرعات إضافية من الصبر لأسبوع آخر فقط بناء على وعد قطعه الناطق الرسمي باسم حكومة الجنوب وزير الإعلام؛ برنابا بنجامين، خلال مهاتفة أجريتها معه (الأحد الماضي) بالخصوص، ورغم وعد الجنوب تنداح الاتهامات من الجنوبيين على حكومة الجنوب ومفوضية العودة الطوعية والقائمين على أمرها؛ بأكل الأموال المخصصة لعودة الجنوبيين إلى موطنهم، حيث سرد القيادي الجنوبي رئيس تشريعي ولاية الوحدة السابق؛ جون تاب، تفاصيل مأساة العائدين والعالقين والراجعين بعد العودة إلى الشمال، وقال لي تاب إن الذين زهدوا في الاستقرار بالجنوب وعادوا أدراجهم إلى الخرطوم عقب وصولهم إلى الإقليم لم يجدوا المأوى والغذاء ومياه الشرب النقية، فتزدودا بمياه الخيران بكل ما تحمل من تلوث. ويرتفع حاجب الدهشة حول مصير العائدين في ظل انتشار الملاريا والحصبة والتهاب السحايا والسل وغياب أبسط خدمات الرعاية الصحية عن (75%) من سكان الإقليم وفقاً لبيان صادر من منظمة أطباء بلا حدود، أشار إلى مقتل (900) شخص وتشريد (215) ألفاً هذا العام، مما ينذر بأوضاع أخطر في مقبل الأيام. واتهم جون تاب حكومة الجنوب باستجداء المجتمع الدولي والإقليمي للتبرع بالمال ليحوله مسؤولوها إلى حساباتهم الخاصة وجيوبهم بدلاً عن تخصيصه للعودة الطوعية. وقال إنهم يأخذون الأموال باسم شركات ترحيل وهمية ويدعون أنهم رحَّلوا مائة عربة مثلاً أو أكثر ليقبضوا الأموال بموجب أوراق مزورة. ولم يستثن رئيس تشريعي الوحدة السابق مسؤولي مفوضية العودة الطوعية من الاتهام، ووصمها - المفوضية - بالخاضعة لإدارة وتعليمات الحركة الشعبية، ويصف كل الصورة بأنها مجرد تجارة وسمسرة بالعائدين، ويراهن على رجوع العائدين أنفسهم من الجنوب إلى الشمال عاجلاً إذا سمحت حكومة الجنوب لهم، ويذهب أكثر من ذلك إلى أن بعضهم قد عاد فعلاً إلى الشمال ودفع بوصية «جيب معاك شوال ذرة وشوال عدس وإلا أولادك أكلوا نيم»، واستهجن جون تاب إطلاق مسمى الجنوبيين الشماليين على العائدين، وقال إنهم جنوبيون ليسوا مثل المزورين الذين يوفودن أبناءهم للدراسة خارج السودان ويسرقون ممتلكات وأموال شعب الجنوب ويدفعون بالعائدين للسكن في المدارس، ويعتبر الأمور تمضي نحو مجاعة محققة وحرب ضروس في ظل وجود ما أسماها بإمبراطورية الدينكا. ولكن الناطق الرسمي باسم حكومة الجنوب نفى أن يكون قد تم أكل أمول العودة الطوعية، وأرجع الصعوبات إلى رفع أسعار تذاكر البصات المخصصة لترحيل العائدين إلى الضعف، وكثرة أعداد العائدين (50 ألفاً) وقلة وابورات الترحيل بميناء كوستي وعدم كفاية مبالغ العودة الطوعية. وأكد أن العائدين سيظلون في الخيام والرواكيب والمدارس لفترة تمتد إلى نصف عام، ليتم توزيعهم بعدها على مناطقهم الأصلية بالجنوب، ووجَّه صوت لوم للحكومة المركزية لعدم تدخلها السريع في حل ضائقة احتجاز المسيرية لحوالي ألف عائد بمنطقة فرسان بجنوب كردفان، التي انتهت بالتزام حكومة ولاية الوحدة بدفع شيك أبقار المسيرية. وفي ولاية النيل الأبيض أكد الناطق الرسمي باسم حكومتها وزير الإعلام؛ عبد الماجد عبد الحميد، غياب كافة الجهات ذات الصلة ببرنامج العودة الطوعية، عن العالقين بالميناء. وقال إن العالقين موجودون بساحة ميدان مكشوف، وأن الولاية دعمتهم بعيادات متحركة لتلافي وضعهم الصحي، لكنه تخوف من مخاطر صحية وأمنية على الولاية في وجودهم، وناشد حكومة الجنوب ترحيلهم أو إرجاعهم إلى الشمال، ووصف أوضاعهم الغذائية بالحرجة جداً. وأكدت مصادر «الأهرام اليوم» أن العائدين يرحلون بأردأ السيارات إلى الجنوب، وأن إحدى تلك السيارات انقلبت في طريق الخرطوم - كوستيجنوب منطقة القطينة، لكن الله أنجى من كانوا بداخلها. وأشارت المصادر إلى شبهة فساد مالي في برنامج العودة، وازدحام حول وجبات قليلة قابلة للنفاد، وإصابات بنزلات البرد. وقالت المصادر إن النقل النهري لم يتسلم مبالغ ترحيل الجنوبيين، وأضافت أن ذلك الواقع جعل الجنوبيين يحملون أمتعتهم على ظهورهم جيئة وذهاباً بين ميناء كوستي ومواقف المواصلات، في وقت تنبأ فيه وزير الصحة بالنيل الأبيض؛ عبد الله عبد الكريم، بأن تسوء الحالة الصحية لهم. ويرى مراقبون أن القادم أخطر على كل الجنوبيين في ظل توجيه ممثل المجموعات المنشقة عن الجيش الشعبي في الحوار مع حكومة الجنوب باستهداف الحركة الشعبية في كل ولايات الجنوب، وإعلان وقف الحوار على خلفية هجوم الجيش الشعبي على قوات الجنرالين جورج أطور وديفيد ياوياو بولاية جونقلي الذي كانت حصيلته (278) قتيلاً وجريحاً في معركتين ومناوشات محدودة. ويتخوف المراقبون من ازدياد المعارك بين الجيش الشعبي والمجموعات المنشقة عنه، وازدياد الحروب القبلية والنزاع حول الأبقار، ويعتبرون شعار (عد إلى وطنك) الذي رفعته الحركة الشعبية انطلق دون أسس متينة، وأنه سيأتي بنتائج عكسية سلبية على مواطني الجنوب، حصادها المزيد من الموت والفقر والجهل والتشرد.