لا يشغل الإمام المهدي ولا عبد الله جماع ولا عمارة دنقس في الوجدان الجنوبي نفس الحيز الذي يشغلونه في الوجدان الشمالي، فالثلاثة انتصروا للإسلام ورفعوا راياته ولم يكن الجنوبيون في غالبيتهم مسلمين. ومن هنا فقد كانوا محقين في موقفهم السالب من هؤلاء الثلاثة الكبار. لقد كان عمارة دنقس وعبدالله جماع هما الأبوين المؤسسين للسودان الرسمي المسلم، وقبلهما كان هناك مسلمون، لكنهما أسقطا دولة علوة المسيحية، وأقاما السلطنة الزرقاء التي عاصمتها سنار، ولم يكن انتصارهما عام 1504م استقلالاً، فالذين كانوا يحكمون قبلهما كانوا سودانيين لكن ذلك الانتصار كان في معناه الحقيقي تغييراً لدين الدولة، في السودان الأوسط خاصة، من المسيحية إلى الإسلام. وكان بعض الإسلاميين ادعوا أن انتصار تحالف الفونج والعبدلاب الذي تم عام 1504م وقادة جمّاع وعمارة كان هو الاستقلال الأول، وليس ذلك صحيحاً لأن المهزومين وقتها كانوا سودانيين ولم يكونوا شعباً قدم من وراء الحدود. لكن ما حققاه ذلك العام تغيير ضخم قد يحدث في القرون مرة وهو تغيير دين الدولة. أما ما حققه الإمام المهدي والأنصار في عام 1885م فقد كان استقلالاً، فالذين حكموا السودان قبل ذلك التاريخ لم يكونوا سودانيين. ولم يكن تعاطف الجنوبيين واهتمامهم بالحدثين الكبيرين اللذين تحققا عامي 1504م و1885م بحجم تعاطف الشماليين واهتمامهم، بل أنه لم يوجد إلا في أضيق الحدود وما أكثر الأسباب ومنها كثافة حضور الإسلام وقوته في كلا الحدثين وبعد الجنوب الجغرافي وصعوبة الاتصال والتواصل في ذلك الزمن القديم بين الجنوب والشمال بحكم بدائية المواصلات والاتصالات. ولذلك كان طبيعياً أن يكون في وقائع عامي 1504م و1885م وما ترتب عليهما إثراء ومرجعية وتراث وتاريخ يُعتز به بالنسبة للشماليين ثم لا يشكل ذلك كله، على جلاله وفخامته، إلا النذر اليسير من التعاطف والاهتمام الجنوبيين. ولذلك كان صحيحاً ما يقال من أن تاريخنا في السودان الواحد الممتد من حلفا إلى نمولي ومن بورتسودان إلى الجنينة لم يكن مشتركاً في كثير من صفحاته! ورغم ذلك فإنه إذا ما كانت لدى المجموعات العرقية المختلفة في المنطقة الواحدة الرغبة في الحياة المشتركة في نفس المنطقة أو الإقليم فإن ذلك يمكن أن يتم رغم وجود اختلافات أخرى في التاريخ أو اللغة أو الدين أو فيها جميعاً. ونحن، والتقسيم على مرمى حجر ما لم تحدث معجزة، مطالبون بالكثير، ومنه تسمية الأشياء بأسمائها وذكر الحقائق.. كل الحقائق، سواء حقائق التاريخ أم حقائق الحاضر!