مرة أول ثمانينيات القرن الماضي وكنت أكتب عموداً يومياً بجريدة «الصحافة» اسمه «قمم وسفوح»، نفس الاسم الذي أكتب تحته الآن بهذه الجريدة، دخلت على رئيس التحرير الأستاذ فضل الله محمد وبيمناي قصيدة - وكانت عن يوم 26 يناير 1885م- حين دخل الأنصار الخرطوم مكبّرين مهللين منتصرين متألقين مطيحين باحتلال بغيض ونظام فاسد كان يجلس على قمته في القصر على الضفة الجنوبية للنيل الأزرق بالخرطوم الأُسكتلندي غردون باشا. وقرأ الشاعر فضل الله محمد القصيدة ثم قال لي «أنحنا ختمية من ود مدني» وتصوّرت أنه لن ينشرها، ونشرها، ولست أدعى أنني شاعر لكن الإنسان السوداني، الشمالي!؟ تحديداً وجد ويجد أنه أحياناً مسوق إلى قرض الشعر وهو يفعل ذلك تحت ظروف مختلفة، منها تفاقم الحزن واحتدام الفرح والشعور الجارف بأنه ليس بوسعك إزاء ذلك الموقف الذي أنت فيه سوى أن تلتجئ للشعر ناظماً وليس متلقياً. وقلنا ونعيد أن يوم 26 يناير 1885م هو أبو الأيام على وزن (أم المعارك) رغم أن هذه الأخيرة لم تكن أماً ولا معركة مشرفة يُعتد بها، لقد رفع أجدادنا السوامق رؤوسنا إلى أعلى نقطة في الغلاف الجوي ذلك اليوم العجيب الخارق السيوبر من أيام يناير 1885م بطرد المحتل في آخر معاقله بالخرطوم وقيام الدولة السودانية الحرة المستقلة بقيادة الزعيم الشاب الفذ محمد أحمد ود عبد الله ود فحل الشهير بالإمام المهدي. ومن الجحود والغفلة أنه ليس في البلد حتى الآن شارع أو صرح يحمل اسم 26 يناير. وكأن ما حققه أولئك الأشاوس هو الاستقلال الأول، ولم يكن ما حققه عبد الله جماع وعمارة دُنْقُس عام 1504م استقلالاً لكنه كان انتصاراً للمسلمين السودانيين على المسيحيين السودانيين ثم أنجزنا الاستقلال الثاني منتصف خمسينيات القرن الماضي بقيادة آباء الاستقلال وفي المقدمة منهم الزعيم إسماعيل الأزهري. وإذا كان من الممكن فهم واستيعاب تصوير تقسيم السودان بأنه استقلال بالنسبة للجنوبيين، فإنه من الصعب أن نفهم أن يُفسّر هذا التقسيم بأنه استقلال للشمال والشماليين. فالتقسيم هزيمة لنا جميعاً في الشمال وفي الجنوب، فقد فرّطنا معاً في الاستقلال الذي حققه الأجداد في القرن التاسع عشر بقيادة المهدي وفي القرن العشرين بقيادة الزعيم إسماعيل الأزهري. ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا، ولا أن نكابر.. ثم يبقى يوم 26 يناير1885م الذي تحل ذكراه ال 125 الأسبوع القادم أحد أهم وأعظم الأيام في حياتنا مع التذكير المستمر بأن تاريخ السودان لم يبدأ به فالسودان ليس أقدم من المهدية وحدها وإنما هو أقدم من المسيحية ومن الإسلام.