يلمِّح بعض السودانيين وأحياناً يصرِّحون بأن تاريخ السودان بدأ بالمهديّة التي حكمت البلد حوالي أربعة عشر عاماً، ابتدأت من يوم 26 يناير 1885م تاريخ اجتياح الأنصار - بقيادة المهدي - الخرطوم، ودخولهم ظافرين مكبرين مهللين، إلى 2 سبتمبر 1898م تاريخ انتصار الجيش الغازي بقيادة كتشنر على الأنصار الذين كان يقودهم الخليفة عبد الله. ولم يكن ذلك صحيحاً، فقد كان السودان موجوداً قبل المهدية، وكان السودانيون موجودين، وكان عمرهم - وطناً وشعباً - طويلاً ضارباً في أعماق التاريخ.. وكانت لهم دولة وكانت لهم حضارة وهي من أقدم الحضارات. وصحيح أنهم في الفترة السابقة للمهدية لم يكونوا في أفضل حالاتهم، وكانوا يخضعون للاستعمار، ومن الغريب والمؤسف أنه كان استعماراً مسلماً، فالدولة التي احتلت السودان واستعمرته قبل الاستقلال الذي حققته المهدية كانت دولة مسلمة، لكن ذلك لا يعني أن تاريخنا بدأ بالمهدية. وقد كانت فترة المهدية قياساً إلى عمر الشعوب قصيرة للغاية، لقد كانت أقصر من العهد المايوي مثلاً، وكانت فترة موظفة بالكامل للجهاد، ولذلك وكما قالوا فإنها لمَّا انتهت لم تترك خلفها أي أثر عمراني يمكن أن يُعتد به. ورأَى سودانيون آخرون أن تاريخنا بدأ عام 1504م، تاريخ انتصار تحالف عبد الله جماع وعمارة دنقس على مملكة علوة المسيحية، بل إن بعضهم قالوا إن ذلك الانتصار هو الاستقلال الأول، ولم يكن ذلك صحيحاً، فالذين انهزموا تلك السنة لم يكونوا أجانب وإنما كانوا سودانيين، وقلنا ونعيد أن السودانيين المسلمين انتصروا ذلك العام على السودانيين المسيحيين، وبعده أصبحت الدولة السودانية الغالبة في السودان الشمالي دولة مسلمة حملت اسم السلطنة الزرقاء. إن عمرنا الوطني يرجع إلى فجر التاريخ.. الى الأزل، وهو من أطول الأعمار في المنطقة من حولنا، وليس فيه ما يعيب أو ما يجعلنا نشعر بالخطر.. وهو عمرنا جميعاً وليس عمر حزب معين أو عرق معين!! ومن الملاحظ أن الأحزاب الشمالية خاصة لم تأبه كما ينبغي بهذا التاريخ الحافل الطويل، وأكثر منها اهتماماً به الحركة الشعبية، فهي تشير إليه بين وقت وآخر وتبدي اعتزازها به، وقد وردت أحدت هذه الإشارات في كلام رئيس قطاع الشمال بالحركة الشعبية ياسر سعيد عرمان في المنتدى الذي أقامته الأسبوع الماضي جريدة أخبار اليوم. ولا يأتي اهتمامنا بتاريخنا القديم انتقاصاً من الإسلام، ولا يشكل خطراً على عروبته، مع ملاحظة أنه ليس كل السودانيين مسلمين وليسوا كلهم عرباً، فالإسلام مكون مهم جداً من مكونات الشخصية السودانية المعاصرة.. والعروبة أيضاً. وهو كله تاريخنا وليس من المصلحة ولا من الأمانة تجزئته والتعتيم على بعضه.