المشروعات العظيمة عبر المسيرة الإنسانية تبدأ بالأشواق والأحلام، ثم يقيض الله لتلك الأحلام من يغرسها على أرض الواقع، لهذا وذاك فإن أي مشروع عظيم يبدأ بحلم مدهش، ولعمري أن الأمة التي تفقد المقدرة على أن تحلم، تبدو كما لو أنها بلغت «مرحلة اليأس» لمَّا تنقطع عنها دورة الأحلام، وإذا فقد التكنوقراط والتنفيذيون والموظفون الوزراء في أمة «فضيلة الحلم» فعلى الكتاب والتشكيلين والمبدعين أن يهبوهم بعض الأحلام والأماني، على من يمتلك فضل «ظهر حلم» أن يعود به على من لا «ظهر أحلام» له، أن تنفق من كرائم ما تملك من أحلام ورؤى في سبيل الله ثم الوطن لتنال البر «وتنال كل مراد»، أن تحلم نيابة عن الذين ذهبت أحلامهم وعقولهم في إجازة مفتوحة! وصاحب هذه الملاذات ولمدى أسبوع بحاله لا يزال معتقلا بين أحرف عبارة باهظة التكاليف أدلى بها وزير المالية لأجهزة الاعلام، تقول تلك العبارة «الكارثة» إن دولة السودان، سلة غذاء العالم الافتراضية، قد استوردت قمحاً في العام الفائت بمليار دولار أمريكي، وأن انتاجنا من القمح بالكاد يغطي عشرين بالمائة من الاستهلاك! واليوم دعوني، وعلى سفح هذا النبأ الشاهق، أن أحلم، أن أمارس فضيلة الأحلام «غير المستحيلة»، الأحلام الممكنة للأمم التي تمتلك بعض إرادة. فرأيت فيما يرى النائم، أن مبادرة قادها سعادة الرئيس البشير في يوم جمعة مباركة، أظنها قد صادفت ساعة إجابة، الرئيس يستدعي في تلك الجمعة ثلة من الأخيار من وزرائه ومساعديه ويطرح عليهم مشروع إقامة محفظة مصرفية بمبلغ «مائة مليار دولار» تحت عنوان «السودان سلة غذاء العرب والمسلمين»، ومن ثم يتوزع الحضور على الدول المستهدفة بالمشاركة في تلك المحفظة وهم يحملون خطابات من المشير البشير، الدكتور مصطفى عثمان للسعودية والكويت والإمارات، دكتور غازي صلاح الدين لإيران وتركيا واندونسيا، الوزير كرتي للبحرين وسلطنة عمان والدوحة، مستشار آخر للعقيد معمر القذافي. بعد أسبوعين من تلك الجولات تتشكل ملامح المحفظة الأولية ببنك السودان، خمسة مليارات وصلت، وعشرين مليار قيد الإصدار، وخمسون مليارا أخرى في مرحلة التصديق الأخيرة. الرئيس البشير يصدر مرسوماً بإنشاء حكومة ذات «قاعدة زراعية عريضة»، يرأس هذه الحكومة رئيس الزراعة الاتحادي، تعزز وزارة الزراعة الاتحادية بعشرة وزراء دولة، وزير للقمح وآخر للقطن. السودان يتحول إلى «مزرعة قمح كبيرة»، القمح في كل مكان.. تتحرك بسيارة مسيرة خمسمائة كيلومتر لا ترى شيئاً غير القمح والسماء.. «خضرة القمح وزرقة السماء».. القمح والسماء. ولما أطل موسم الحصاد الكبير تتحول حكومتنا إلى «حكومة تصريف أعمال القمح»، ويشهد كرنفال الحصاد أكثر من عشرة ملوك وزعماء وأمراء ورؤساء، ثم تتفجر الأخبار عبر الفضائيات، السودان ينتج قمحاً يكفي أمة المليار ونصف المليار مسلم لخمسة مواسم، والمشروع في مرحلته الأولى. المشير البشير يذهب لأجهزة الإعلام ليعلن أن السودان موطن للقمح، ثم الرئيس ذاته يذهب «يعرض» على أنغام «ألحان القمح».. لأول مرة أطرب لتلك «العرضة» التي كما لو أنها «لقمة على شبع».. السودان يكتفي ذاتياً من القمح ويكفي الأمة كلها مشقة الحصول على الغذاء في زمن عز فيه الغذاء، والرئيس لا يحتاج في ذلك المنبر إلى أن يعلن الشريعة الإسلامية، فمعلوم بالضرورة والممارسة «أن الذي يمتلك القمح يمتلك الشريعة» والذي لا يملك قوته في المقابل لا يملك قراره، ولا شريعة لمن لا قمح له! ثم استيقظ على تلك العبارة الأليمة «السودان يستورد قمحاً بمليار دولار»!