{ الذين يتابعون هذه الزاوية، ربما يدركون حجم الدموع الغزيرة التي سكبناها، والمقالات الحسان التي أنفقناها، وخطاوي الحسرة والندم والأسف الطويل التي مشيناها، لأجل مشروعنا الزراعي «المتعثِّر الخاسر»! { ولتنشيط ذاكرة الرأي العام، فلقد ذهبت دائماً إلى أن الشرعية الحقيقية التي تصمد أمام كل العواصف الهوجاء هي «شرعية القمح» ولا شيء غير شرعية الخبز والقمح، بدليل أن كل الثورات التي تشتعل من حولنا هي بسبب نفاد سلعتي «الخبز والحرية» من بعض الأسواق، ونحن في السودان لا أتصور أننا نُعاني أزمة حادة في «سلعة الحريات»، مهما كثرت وتناثرت حجج اليسار، لكننا ربما نعاني ما يشبه الكارثة في سلعة القمح، وذلك لكوننا أمة منتجة لهذه السلعة ونملك كل مقومات زراعتها وتوفيرها وتوقيرها وتصديرها، وإذا زعمنا أننا نمتلك من الحرية بما يكفي لتسيير دولاب مجتمعنا الحزبي والمدني الديمقراطي، سنحتاج في المقابل إلى الزعم بأن ما بأيدينا من الخبز ليس مطمئناً، وأستعين دائماً بتجارب تلك الحكومات من ذوات الأعمار القصيرة التي كان يديرها الإمام الصادق المهدي في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، فلم تسعفها شرعيتها البرلمانية عندما خذلتها «شرعية الخبز»، وذلك لدرجة الإذعان إلى أن أي شرعية برلمانية أن لم تملك ما يوازيها من خبز، فلن تصمد طويلاً. على أن عمر الحكومات، في أزمنة الثورات العربية، مرهون «بالمخزون الإستراتيجي» من القمح، على أن الشعوب تذهب في كل صباح إلى الأفران لترى «وزن حكومتها» فكلما قلّ وزن الخبز كلما قلّ وزن الحكومة، على أن صلاحية الحكومة تنتهي مع آخر جوال قمح يخبز و.. و... { فإشارة عابرة في نشرة العاشرة السودانية، بطلها مسؤول القمح بمشروع النهضة الزراعية، جعلتني أعود إلى هذا الملف حاسر الأماني «مكسور الخاطر» وأوشكنا قبل هذا التصريح أن نتخلّص من أعباء العام السابق، والتي قالت تقاريره النهضوية «إن إنتاجنا من القمح لم يملأ أكثر من خانة العشرين في المائة من استهلاكنا» بحيث أن دولة السودان «الزراعية» احتاجت إلى أن تستورد العام الفائت قمحاً بقيمة مليار دولار لتسد النقص المحلي، في بلد أصلاً يعاني من أزمات «العملات الصعبة»، قلت، أوشكنا أن نُلملم جراحنا لنمضي على أمل أن القوم قد استوعبوا الدرس في عصر الأزمات الغذائية التي تجتاح العالم الآن، إلى أن أطلّ علينا رجل من «النهضة الزراعية» أمس الأول عبر شاشة الفضائية السودانية ليبشِّرنا بأن «إنتاج هذا الموسم من القمح» يراوح مكانه ولا يتجاوز نسبة العشرين بالمائة من الاستهلاك المحتمل لهذا العام. بمعنى آخر أننا سنحتاج إلى أكثر من مليار دولار أيضاً لتغطية «عجزنا الزراعي» المتواصل! وكنا قد وجدنا بعض العذر للفريق الذي يدير «مشروعنا الزراعي » الحالي على افتراض أنهم لم يكونوا جزءاً من «المرحلة السابقة» وكما لو أنهم يقولون لنا «أعطونا فرصة» انتظروننا في الموسم القادم، الذي هو الموسم الحالي. موسم هذا الشتاء، ثم كانت «الصدمة البالغة» والتي قالها بالألوان «وزير القمح» في مفوضية النهضة الزراعية، بأن حصادهم من القمح في هذا الشتاء لم ولن يتجاوز نسبة العشرين في المائة من الاستهلاك المحتمل! { وأستطيع الآن، أيها السادة الأماجد، أن أنعى إليكم «مشروع النهضة الزراعية» وأطروحاتها بمكاتبها ومخصصاتها وأساطيلها، وربما كانت خسارتنا الفادحة التي لا تعوَّض، هي هزة المواسم الزراعية التي تتساقط من بين أيدينا وأعمارنا وأجيالنا، في وقت أصبح فيه القمح أغلى من النفط، حيث كانت فرصة هائلة ليصبح «السودان الزراعي» أغلى وأثرى ألف مرة من «دول النفط»، لأن العالم كله من أقصاه إلى أدناه يحتاج الآن هذه «السلعة الذهب»، لكننا نحن عاجزون من إطعام أنفسنا فضلاً من أن نكون «سلّة غذاء للآخرين» ، فلتذهب النهضة الآن إلى «إرشيف فشلنا» التاريخي لتلحق بصويحباتها من نفرة ووثبة فاشلتين.. { وأنّي لأتعشّم من «إعلام القصر» وفق المهنية والأخلاق، أن يجعل هذا المقال يأخذ طريقه إلى منضدة السيد الرئيس، لعله يُفجِّر «غضبة زراعية» رئاسية ترقى لدرجة الثورة يُحال بموجبها كل «فريقنا الزراعي الحالي، إلى المحاسبة أولاً، ثم المعاش ثانية.. والله أعلم { مخرج.. القمح.. الأزمة مستمرة والفشل يراوح مكانه..!