{ أتعجب لأمر أولئك الذين يستكثرون على الناس ذرف الدموع حزناً.. وحسرةً على انقسام السودان إلى دولتين.. حتى الدموع، وهي أضعف الإيمان في التعبير عن موقف (طبيعي) يصدر عن إنسان سليم ومعافى (نفسياً) تجاه قضية تقرير مصير وطنه وشعبه.. { وقد يذرف الدموع آخرون في الجنوب رجالاً ونساءً.. شيوخاً وشباباً، لأنهم صاروا على مشارف إعلان (استقلال) الدولة الحلم التي طال انتظارهم لها..! وقد يظن الرائي من مشاهد الفرح الطاغية في «جوبا» أو «ملكال» أو غيرها من مدن الجنوب، أن (كل) شعب الجنوب (انفصالي).. تماماً كما يصرخ في آذاننا انفصاليو الشمال، ويزحمون طرقات «الخرطوم» بلافتات (ساذجة) تقول: (يوم انفصال الجنوب هو يوم الاستقلال الحقيقي)!! استقلال مِن مَنْ ؟!! من الجنوبيين؟! { ويقول القائلون إن نتيجة الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، التي ستزيد عن (90%) لصالح الانفصال، تؤكد ذلك الزعم.. (كل) شعب الجنوب انفصالي.. و(أكثر) شعب الشمال أيضاً..!! بدليل أن بضعة عشرات من مواطني (شرق النيل) نحروا الذبائح مع المهندس «الطيب مصطفى» احتفالاً بيوم الفصل..!! { دعوني أسأل هؤلاء المحللين العظماء والانفصاليين البسطاء: كيف كان سيكون المشهد في «جوبا» لو أن «سلفاكير» و«مشار»، و«باقان» و«دينق ألور» ورئيس أركان الجيش الشعبي الفريق «جيمس أوث» وعدداً من مساعديه، أعلنوا انحيازهم لخيار (وحدة السودان) قُبيْل الذهاب إلى صناديق الاستفتاء؟! { هل تؤثر قيادة (الحركة) و(الجيش الشعبي) على الرأي العام في الجنوب.. أم أن الرأي العام هو الذي يؤثر على القيادات فتنحاز إلى خيار الجماهير، راضخةً مضطرةً، كما يحدث في أوربا؟ { الإجابة على السؤال أعلاه تكشف لنا الحقيقة.. وتجيب على السؤال التالي: هل الصحيح أن (90%) من شعب الجنوب انفصاليون.. أم الأصح أن (90%) من قادة الحركة الشعبية انفصاليون؟ {في رأيي - كمراقب - أن (القيادة) هي التي قادت (القاعدة).. بالعقل.. أو بالعاطفة.. أو بالإكراه، وكلنا شهود.. وليس العكس.. { ذات الصفوف التي تطاولت في الجنوب أمام مراكز الاستفتاء من أجل التصويت للانفصال.. كان يمكنها أن تتطاول أيضاً لصالح (الوحدة)، لو أن «الحركة» وأصدقاءها في أمريكا وأوربا و(جيراننا) أرادوا ذلك.. { الحديث عن «ديمقراطية» وعدالة.. وشفافية في الجنوب، جعلت الشعب هناك حراً ومستقلاً.. ومطمئناً لاتخاذ قراره دون تدخلات، يبدو أمراً مثيراً للضحك والسخرية.. فنحن سودانيون مقيمون في هذا البلد، ونعرف الحقائق ولا تخفى علينا الخبايا.. هنا.. أو هناك.. شمالاً أو جنوباً.. لكن كاتباً مصرياً كبيراً مقيماً في «القاهرة» مثل الدكتور عبد المنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة (الأهرام) المصرية، يمكنه أن يطلق العنان لقلمه بعيداً عن الواقع.. والوقائع، ليؤكد أن الجنوبيين عندما تراصوا في طوابير الاستفتاء لم تكن على رؤوسهم (مسدسات)، ولا (خناجر) باتجاه القلب، تفرض عليهم خيار الانفصال!! { الدكتور «سعيد» يؤكد (لنا) وللعالم بأن: (الجماهير كانت حرة تماماً من كل ضغط، خاصة في تلك اللحظة التي يواجه فيها كل فرد ورقة الاقتراع، ولم يكن القرار إسرائيلياً ولا أمريكياً ولا غربياً ولا شرقياً، بل كان قرار السوداني الجنوبي..)!! { ورغم أن د. «سعيد» يحمِّل المسؤولية - كل المسؤولية في الانفصال - للنخبة السياسية في السودان، إلا أنه يصر في مقدمة مقاله على أن (الجماهير كانت حرة)!! { ويؤسفني أن أقول إن رئيس مجلس إدارة أكبر دار نشر في العالم (العربي) لا يعرف شيئاً عن السودان، ما دام مصراً على أن الجماهير كانت (حرة).. ولم تكن على رؤوسها مسدسات ولا خناجر.. حسبما أخبرته صور الفضائيات الحرة - أيضاً - والمستقلة!! { لقد كانت غالبية الجنوبيين تقيم في الشمال طيلة سنوات الحرب العشرين، فهل كان الجنوبيون (في الداخل) أعضاء بالحركة الشعبية ومقاتلين في صفوف جيشها الشعبي قبل التوقيع على بروتوكولات السلام في الفترة من (2002م - 2005م)؟! لماذا نزحوا شمالاً ولم يتجهوا جنوباً ليقاتلوا مع «الحركة»؟! { عامة الجنوبيين، بمن فيهم عدد كبير من حملة رتبة (اللواء) في الجيش الشعبي - الآن - لم تكن لهم أية صلة تنظيمية أو فكرية بالحركة الشعبية، إلى أن وقّعت الحكومة على اتفاقية السلام في يناير عام 2005م. { الاتفاقية أخلت الجنوب تماماً سلطةً.. وثروةً وجيشاً للحركة الشعبية.. فصارت هي صاحبة القرار.. وليس شعب الجنوب.. فكان الانفصال دين العامة من الأميين والبسطاء.. والناس على دين ملوكهم ... { فعندما كان «قرنق» حياً كان الجنوبيون وحدويين..!! وعندما اغتالته (المخابرات) الدولية والإقليمية، وليس (الصفوة السودانية)، سيطر على «الحركة» الانفصاليون بقيادة «سلفاكير»، فتحول الجنوب ناحية الانفصال، وهذا ما خططت له القوى الدولية والإقليمية، مثلما خططت للفتنة الطائفية والدينية في مصر، أم أن الصفوة في مصر هي التي أحرقت الكنيسة في الإسكندرية؟! { من الغباء أن يستشهد البعض من (انفصاليي الشمال) وهم بضعة مئات، أو المراقبون الأجانب، بطوابير الناس في «جوبا» أمام الصناديق، أو بنتيجة الاستفتاء (الموجه) لتوصيف حقيقة الحال في الجنوب، فالحقيقة مختلفة جداً.. { والجيش الشعبي - يا دكتور عطية - لا يستخدم (المسدسات) لإرهاب الناس وقمع المتمردين في الجنوب.. فهي وسيلة (بدائية).. تناسب أفلام (الأكشن) العربي.. ولا تناسب مقاتلي غابات الاستوائية..!!