تظل حالة التوجُّس والخوف من الوقوع في دائرة نسخ التراث أو اقتباسه شبحاً يُطارد كل شعراء الحداثة في السودان، وبرغم أن التوثيق بمعناه المفهوم قد دخل بلادنا حديثاً، إلا أن التراث السوداني متراكم وغزير ولا تستطيع حتى دائرة المعارفة البريطانية - باعتبارها أكبر ماعون وثائقي في العالم - أن تجمع شمله في عشرات السنوات. وبذا فإن قضايا الشعراء في هذا العصر تظل شائكة مع هيئات البث المرئي والمسموع مع عجز مكتب حق المؤلف في السودان عن الفصل في تصنيف بعض كلمات الأغنيات في خانة التراث أو نسبها لشاعر معاصر معروف. لذلك نجد أن شركة إنتاج ما تكتب اسم شاعر مقابل أغنية محددة وعندما يأتي المطرب لتسجيلها لمحطة إذاعة أو تلفزة فإن لجنتها المختصة تُقرر أن هذا العمل هو من التراث القومي ولا يوجد له مؤلف معروف. وإن كنا لا ننكر أن عشرات الأغنيات التراثية قد خضعت لتعديل وتحوير وإضافات في الكلمة واللحن، ولكن السؤال هل كل من يُعدِّل أغنية تراثية معروفة يُعدُّ شاعراً للعمل بعد التعديل؟ وهل يُحق لهذا المالك الجديد أن يطالب بحقوق التسجيل والبث، وحقوق إصدار الإلبوم لدى شركات إنتاج الكاسيت؟ فإذا كانت الإجابة بنعم، فإن المشكلة تكون قد حُلّت ولكن جهات الإختصاص القانونية ترى أن هذا الشخص قد قام بتشويه التراث أو سرقته، عليه يجب أن يُعاقب في الحالتين معاً غير أن هذه النظرة أيضاً تظل محل خلاف، فإذا نظرنا في لحن أغنية (حبيبنا الكان معانا يا ناس الليلة ما جانا) التي أول ما سمعتها سمعتها وأنا صغير كانت تتغنى بها النسوة، غير أن أغنية وطنية عالية القيمة يكاد يكون لحنها مرادفاً لهذه الأغنية - رغم عدم تخصصي في الموسيقى - وهي رائعة الموصلي (بلادنا نعلّي شانا ياناس سودانا نادانا) فإذا ثبت أن اللحن مطابق لما قبله فهل يُعاقب الموصلي هنا أم يُثاب وقد قدّم سقفاً للوطنية بأغنيته هذه حتى صار الشعب كله يُردد خلفه؟! لذلك ومن منظوري الخاص، أرى أن التراث ليس مقدساً وليس بكامله محل إعجاب ويجب أن يخضع للتنقيح والتعديل مثله مثل الكتاب الذي كتبه مؤلفه قبل ألف عام وأُعيد طبعه.. عليه يجب تنقيحه من «الخرافات» ومثالاً لذلك بعض ما ورد في كتاب «المستظرف في كل فن مستطرف» حيث أطلق مؤلفه الأبشيهي العنان لنفسه وذكر في بعض أبوابه تعاريف وخصائص عن بعض الحيوانات لا يصدقها الآن طفل الرابعة. فإذا كان التراث مقدساً فلماذا دمّر نبينا محمد «صلى الله عليه وسلم» تراث قريش المتمثل في أصنامها «اللات والعُزى وهُبل ومناة» وغيرها من خزعبلات الشياطين التي ظلّ كفار قريش يعبدونها لآلاف السنوات؟!، ولماذا لم يقل سيد المرسلين إنها قِطع أثرية نادرة يجب الإبقاء عليها والاستفادة منها في بند السياحة لدعم خزينة الدولة الإسلامية بعد فتح مكة؟!. أنا مع تنقيح التراث من الشوائب، شعراً وموسيقى ورقصاً وغناءً، بل عادات وتقاليد. فعلى فرسان الحماسة أن يتركوا (البُطان) أو الجلد بالسياط وهم نصف عراة في الأماكن العامة على أقل تقدير، وعلى بعض قبائل السودان أن تُراجع وتستُر أجساد فتياتها أثناء تأدية رقصات القبيلة، وعلى نساء السودان أن يُقلِّدن أم الزوجة الدارفورية التي لا تتحدث مع زوج بنتها إلا بعد أن يجثو على ركبتيه وهي كذلك وبينهما مسافة تزيد عن المترين، حيث يبدأ بتحيتها وترد التحية سائلة عن أحواله ثم يقومان ويغادر كل منهما في إتجاه معاكس لحركة الآخر احتراماً! كما أنها لا يمكنها أبداً أن تأكل أمام ناظريه فهو (نسيبها) والنسيب (عين شمس). فلنحافظ على الحميد من التراث ولندمِّر ما يشابِّه أصنام قريش التي دمّرها سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.