{ أحد «الإخوان الشيوعيين»، إن صح هذا التعبير ولم يتمرد على الأدب المتعارف عليه من المصطلحات، حيث إعتاد الناس استخدام مصطلح «الإخوان المسلمين» و«الرفاق الشيوعيين»، المهم أن هذا الأخ كان يرافقني منذ أيام في «رحلة اجتماعية» حيث جمعتنا قربة الأرحام وفرقتنا تجاذبات الأفكار. لم يهدأ هاتف الرجل الرفيق طوال تلك الرحلة، وبدا أن اجتماعاً محتدماً في الجانب الآخر يشتعل، فقط يفتقد صاحبي، وربما كانت الخدمة الأولى التي أقدمها لليسار السوداني وأنا أضاعف سرعة العربة حتى يلحق صديقي باجتماعه. وكان الشيوعيون في سابق الأزمان يدسون آلياتهم الحركية ويختبئون حتى في مواسم التعدديات، لكن صاحبي قد جهر لي بأجندتهم المفتوحة وعناوينهم المشرعة، بأنه لم يهدأ لهم بال حتى يسقطوا النظام، اليسار يريد إسقاط النظام، وأنا أتبرع لهم بهذا الشعار، الشيوعيون يريدون إسقاط النظام. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل أتى على الشيوعيين حينٌ من الدهر لم يعملوا فيه، تحت الأرض أو فوق الأرض، لإسقاط النظام، ليس نظام الإنقاذ فحسب بل كل الأنظمة، كما لو أن الحزب الشيوعي قد بُعث أصلاً لتغيير الأنظمة. يحكي أن كادراً شيوعياً رست به سفينة في إحدى الجزر، فكان سؤاله الأول: هل في هذه الجزيرة حكومة؟ ليقول مباشرةً: «أنا ضد هذه الحكومة»! وأتصور والحال هذه، لو أن الشيوعيين صنعوا حكومة ذات ثورة حمراء، لكان أول الذين يخرجون على هذه الحكومة هم الشيوعيون أنفسهم! والشيء بالشيء يذكر، مرة سئل الشاعر التجاني سعيد، صاحب «قلت ارحل» وأخواتها، لماذا تنفي تهمة الشيوعية وقد سجنك جعفر نميري في مايو لما انقلب على الشيوعيين؟ فقال أستاذ التجاني: «كل الناس قد سُجنوا في مايو، حتى جعفر نميري نفسه قد سُجن في مايو» - في إشارة إلى الثورة الارتدادية التي قادها الشيوعيون ضد مايو، فقد سُجن رجل مايو جعفر نميري في مايو ذاتها وذلك قبل أن يسترد حكمه من براثن تلك الثورة التصحيحية كما يسميها اليسار، فمايو ثورة صنعها الحزب الشيوعي، وهي ذات الثورة التي خرج عليها! { وكما تحتدم مشاعر المدرسة الصوفية في شهر ربيع، تحتدم هذه الأيام مشاعر الرفاق الشيوعيين والثورات العربية تشتعل من حولنا، فالشيوعيون في هذا الشتاء يدخلون في اجتماعات ساخنة وهم يلهثون للحاق بركب الثورات العربية، ولكن لسوء حظهم أن هذه الثورات لا تُصنع بالاجتماعات المتواصلة، وإنما تُصنع الثورات العربية بالجماهير ولا شيء غير الجماهير، والحزب الشيوعي في هذا الشتاء ربما يمتلك كل شيء إلا الجماهير! لدرجة أن أحد هؤلاء الرفاق قد قال منذ فترة، إننا لا نمتلك «مفتاحاً بلدياً» لحل ماكينة الإنقاذ، ولا نملك في هذه المرحلة إلا أن نستعين «بمفتاح أفرنجي»، بمعنى أنهم لا يمتلكون الجماهير الكافية التي يمكن أن تشكل «لوحة مليونية» كالتي صنعها الإخوة المصريون بميدان التحرير! فلا صناديق الاقتراع يمكن أن تسعف حزباً لا تتعدى عضويته حمولة ثلاثين عربة أمجاد، وفي المقابل تخذله ثقافة «جمهرة الثورات»! والثورات تصنعها الجماهير. { والقصة في السودان معكوسة تماماً، الحكومة هي التي تصنع في كل يوم جديد «حشداً جماهيرياً مليونياً»، أكتب هذا المقال وشاشة النيل الأزرق تعرض مسيرة مليونية من الولاية الشمالية، بحيث لم تمضِ أيام على تلك اللوحات المليونية التي صنعتها الجماهير في الدمار وكردفان وقبة الشيخ الكباشي، فأين ما حل الرئيس تتسوره أحزمة الجماهير التي تملأ كل الأفق وتسد كل الحجب، فالحكومة هي التي تصنع في كل يوم ثورة! { وآخر الأخبار أن الشيوعيين يتجهون إلى تشكيل أحزمة جماهيرية من بقايا الحركة الشعبية وبعض مدارس اليسار، غير أن أزمة صناعة الثورة السودانية تكمن في شيئين اثنين: الأول أن قبائل اليسار السودانية لا يحرسها أي رصيد تنموي وإنتاجي فضلاً عن غربة الوجهة ومفارقة المعتقد. والشيء الثاني أن الجماهير تدرك إن هي فقدت هذه الحكومة ربما تفقد كيان الدولة السودانية؛ لأن المشهد السوداني أصبح يضج بالحركات الإثنية والأحزاب الثأرية والأجندة الأجنبية التي تستهدف كيان الدولة السودانية. { مهمة شاقة تنتظر إخواننا الشيوعيين السودانيين.