{ صدق الإمام الشافعي في المقولة الشهيرة والمنسوبة إليه: (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب). فالطب بما يحتويه من أسرار دفينة عن المرض والمرضى يحتاج إلى فارس نبيل يمتشق سيف الأخلاق الفاضلة ليخوض غمار معركة حياة الفرد الدائمة نحو الشفاء، لذلك قال الإمام الشافعي (أنبل وليس أفضل) لأن النبل كلمة لها موطئ قدم مهيب في الأسماع أكثر من غيرها؛ فهي لها إشعاعات في النفوس والعقول لا تقل جمالاً عن إشعاعات النجوم والكواكب، نشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، فهي أشد غموضاً وتعقداً من الإشعاع الحسي الذي يعشي الأبصار لا البصائر، لذا هي تفترض على مَن يتحلى بها تكامل الذات مع الصفات، ولهذا قيل قديماً (عصا عمر أهيب من سيف الحجاج) وذلك لأن عصا عمر كان معها يد عمر ومعها نفس عمر؛ وهي تشع جلالاً وعظمة، وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبابرة، وأما سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهي تشع من غير شك قوة، ولكنها قوة على الجسم لا الروح. { والطبيب النبيل مَن يجلس معه المريض فيشع عليه نوراً يضيء له بين جوانبه، فيدرك مثالية العالم الذي حوله، ذلك لأنه وجد عظيماً ملأه حياة وملأه قوة، وأخذ يحدثه في وُد ظاهر كأنه صديق حميم لم يقابله منذ أمد بعيد، فيخرج المريض من عنده وهو يشعر بتيار كهربائي من التفاؤل يوصل بينه وبين جمال الحياة وبأنها يجب أن تُعاش مادام مثل هذا العظيم بها. { ونقيض ذلك الطبيب غير النبيل - أو مَن يجعل الطب مهنةً لا سلوكاً - فهو لا يعطي المريض الوقت الكافي ليبث له الشكوى، ويستقبله بفتور حتى يحس المريض معه أنه السبب في مأساة هذا الشخص الواجم العابس، فيتلقى منه أشعة مظلمة تنقبض لها نفسه، فتظلم جوانبها ويحس بميل شديد للفرار، ويتنفس الصُّعَداء إذا خرج من مكتبه، وإذا ضمَّه الشارع الواسع يهتف في راحة شديدة (الحمد لله الذي أخرجني من الظلمات إلى النور). { وأنا عزيزي القارئ تعجبني أيما إعجاب خصائص وشروط الفيلسوف، التي أوردها الفارابي، صاحب القيمة الفكرية السامقة في تاريخ المعرفة البشرية حتى أُطلق عليه لقب المعلم الثاني (خلف المعلم الأول أرسطو). وبما أن الفلسفة هي العلم الكلي الذي تنطوي وتندرج تحت رايته بقية العلوم الجزئية كالطب مثلاً، فما أحوج الأطباء لتطبيق هذه الشروط والتحلي بها، التي كنت أتمنى أن يدرجها المجلس الطبي السوداني مع قسم الأطباء الشهير قسم أبوقراط - طبعاً إذا سمع بها المجلس الطبي - الذي يؤديه الأطباء لبداية ممارسة المهنة. وخصائص وشروط الفيلسوف عند الفارابي، التي ضمنياً يتحلى بها الطبيب النبيل هي: أن يكون محباًً للصدق والعدل والخير، وتصفية نفسه من شوائب المادة وشواغل الحس، وأن يكون جيد الفهم والتصور غير جموح ولا لجوج فيما يهواه، وأن يكون غير شره على المأكول والمشروب، وتهون عليه الشهوات والدنانير والدراهم. أن يكون كبير النفس عما يشين عند الناس، عسر الانقياد للشر والجور، وأن يكون قوي العزيمة على الصواب، صحيح الاعتقاد متمسكاً بالأفعال الفاضلة التي في دينه غير مخل لها. ينبغي أن يكون معتدل المزاج، متصفاً بكل الصفات التي تُميز كبار الرجال وتجعلهم موضع احترام وتقدير الكبار والصغار، وأن يكون بعيداً عن الفجور والفسق والمكر والغدر وحب الذات، ولا ينبغي أن يحترم أحداً أو يجل أحداً إلا لعلمه وأخلاقه. أن يكون متحرراً من كل الميول والأهواء، والرغبات وأن تكون نظرته إلى الأمور نظرة موضوعية، ولا يخشى في إعلاء كلمة الحق لومة لائم. { وأخيراً صديق (أمصال وإبر) ما رأيك في فكرة إنشاء (طبقة الأطباء النبلاء) كما حدث في العصور الأوروبية الوسطى، وأنا متأكد من تأثير إشعاعها القوي النبيل على فئات المرضى، وسيمتد هذا الضوء على غيرهم من أطباء (الظلمة) أي الذين يحولون مهنة الطب (مهنة الإنسانية والرحمة) إلى مهنة الكسب المادي حتى التخمة. { في الختام وحتى الملتقى أعزائي القراء أسأل الله لكم اليقين الكامل بالجمال حتى يقيكم شر الابتذال في الأشياء.