إنها مسائل شائكة، وأخلاقية إلى حد بعيد؛ فأطفالنا ليسوا مجرد دمى ناطقة صغيرة تشبهنا في الملامح وتقلدنا في الحركات والأصوات، أو نعمة من الله نشكره عليها بلا حديث، كما أمرنا، ثم ّنخفيها من عيون الحاسدين، وليسوا مجرّد أرقام تضاف إلى عددنا الأسري أو العشيري.. إنهم ببساطة استثمارنا الناجح إذا أحسنّاّ إدارة اقتصادهم! وهو اقتصاد يبدأ منذ خروج الطفل حديثاً إلى الحياة بالحرص على أن ينال حقه في التطعيم كاملاً لينال لاحقاًً حقه في مجانية العلاج، إذا دعت الضرورة الصحية لذلك، وهذا ليس أمراً كبيراً إذا نظرنا إلى الخلية المتشابكة المعقدة التي تدير عملية التحصين ليصل المصل صحيحاً وصالحاً ومجاناً للطفل. لكن المؤسف أن المجتمع يساهم بقدر كبير في عدم منح ذاك الطفل حقه الأول من الرعاية الصحية الأولية، بمعتقدات خرافية، تختلف في ضروبها، كأن تخاف أمه من العين لأن صحته زائدة! أو لأن ذاكرتها نقلت لها عن بعض الثرثارات قول: (التحصين ده عاملينو عشان يعرفوك ولدتي كم ويمنعوك من الولادة)! وبغباء مستحكم، فبعض الأهالي يظنون بالتحصين السوء لمجرد أنه مجاني! وباستعلاء فاحش لبعض الصفوة لعدم حاجتهم إلى مجانيته لأنهم يستطيعون دفع الملايين إذا مرض طفلهم! كل هذا والطفل في كافة تلك الاحتمالات بعيد عن الخيارات المتاحة له كحق أصيل، يفتقد إلى الحول في القول، وسيفتقد إلى القوة في الجسم حالما يصاب بواحدة من أمراض الطفولة المعنية بالتطعيم، وحينها لن تجدي الملايين من الأموال ولا الدموع..! إن الجموع التي تلتقي في كل حملة لبرنامج التحصين محتشدة بالعزيمة قبل الأداء وبالإيمان قبل الولاء، تحاول أن توصل صوتاً مسموعاً بأن التحصين شأن يعنينا كلنا، وليس إدارة برنامج في وزارة صحة اتحادية أو ولائية أو أطباء متميزين أو جمعيات طوعية ومنظمات دولية، إنه أمر يخص أولاد السودان في قادم المستقبل، لهذا فإن انعقاد العزم لقول إن المجتمع يجب أن يدير خطة تحصينه لأبنائه، وليس الدولة، ليس هو أمراً اعتباطياً أو (هوشة) لحظية ترافق الحدث، إنما إرادة لتغيير الوجه (الشين) لمجتمعنا من استهلاكي من الدرجة الأولى إلى قيادي من الدرجة الأولى أيضاً. فالإضاءات التي تومض بخجل هنا وهناك في ما يتعلق بأمر الطفولة في السودان عموم، من بناء مستشفى خاص بهم للسرطان أو الفشل الكلوي أو الأيدز، إلى الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة وفاقدي السند.. الخ، إضاءات تكاد تكون مستجدية أو بتشحد بقرعتها - (إشارة مؤلمة من كلمة د. أماني عبد المنعم مديرة برنامج التحصين في اللقاء التفاكري لتفعيل الشراكات) - أكثر من مطالبة بحق أساسي وشرعي لها، وهي إضاءات تلسع الروح حينما تفضح المجتمع الذي يصرف رؤوس الأموال فيه الآلاف من الدولارات وبشكل راتب لجوائز ومسابقات سخيفة لمجرد أنها تحقق له الإعلان ثم زيادة المشتريات، ناهيك عمّا تصرفه الحكومة نفسها للهو المباح! وما تبيحه لنا الضرورات من الأحاديث المحظورة هو ما قوّلنا بدعوة الوطنيين الذين يملكون القلم ليكتبوا شيك (الأطفال سعداء بتحصينهم) على بياض البند الثابت من ميزانية صرفهم السنوي تمنح - ليس نقداً لزيادة الثقة - ومنذ الآن لسد العجز الذي سيواجه به السودان حالما يسحب المانحون الدوليون دعمهم من السودان في قريب سنوات لا تتعدى الثلاث! فليس (بيل غيتس) أكثر تصدقاً وكرماً منكم!! وأن يختشي إعلامنا الرسمي والخاص من اللامبالاة العالية بعدم المبادرة بحملات توعية وتثقيف للأمهات والآباء بكافة حقوق الطفل مقابل ما ينفقه من حملات تطهير ثقافي على عقولنا! وأن نعرف، وكما أن (البامبرس) واحد من مستلزمات الطفل هذه الأيام كتغيير اجتماعي من (الكافولة) القديمة إليه ليحميه وثيابنا من البلل وملحقاته! فإن التطعيم هو أول مستلزماته التي يجب أن نحافظ على وجودها لمدى خمس سنوات، عمر حقه فيها كتغيير اقتصادي ينجح استثمارنا فيه بتقليل نسبة إصابته بالمرض، تحمينا وجيوبنا من البلل بالفلس والدموع وملحقاتها.. (اليونيسيف تطلق حملة عالمية عند شراء البامبرس، فإنك تدفع لتشتري مصلاًَ لتطعيم طفل)!