قبل فترة استضافتني إذاعة ولاية الخرطوم في برنامج منوعات مسائي شارك فيه فنان شاب يدعى أبو بكر سيد أحمد لم أتشرف بمعرفته قبل ذلك، وأثناء البرنامج استمعت إليه فاهتز بدني طرباً وتفاعلت مع صوته البديع وحنجرته الندية. غنى رائعة الراحل المقيم أحمد الجابري (ما نسيناك) فتعملقت في نظري عبقرية الراحل أبي آمنة حامد أكثر، وقد سكب رحمة الله عليه في تلك الأغنية الخالدة كل شاعريته الفذة، وذخيرته اللغوية الموغلة في الإبداع. وغنى أبو بكر لعبد العزيز داؤود فأحيا سيرته فينا من جديد، وأعاد بعث صوته القوي ومنح الأغنية كل حقها وأفاض. كتب الأدروب المبدع قصيدة (ما نسيناك) بكل أحاسيسه الجميلة، وحولها الجابري رحمة الله عليه إلى أغنية آسرة، وطوع حروفها بحباله الصوتية الذهبية فظلت خير مثال لجمال الحس السوداني وبهائه وعبقريته. (ما نسيناك جايي تعمل إيه معانا بعد ما بدلتنا.. ما سقيناك أحلى ما في عمرنا من عواطف.. وما لقيناك). (الرهيف قلبو بيعيش في حبو أكتر من يقينو.. تستبيهو نظرة جارحة.. وتحترق بالحب سنينو.. قلبو عايش في العيون الشاربة من حبو وحنينو.. وناسية حتى إنو إنسان.. يسعى بي قلباً يعينو.. جايي تعمل إيه)! (ما كفاهو العذاب الهو فيهو.. ليه تزيد آلامو أكتر.. ليه عيونو.. العمرها ما خانتك تبكي وتسهر.. ليه توشح فجرو بالأحزان بعد ما قلبو نوّر.. أضحى جرح الفرقة في قلبو الحزين من حبو من أكبر). (قلبي غافر ليك ذنوبك.. سيبو بس تنشف جراحو.. والحنين العاش لحبك بت تسخر من نواحو.. سيبو مرة يغسل أحزانو الأمل يشرق صباحو.. وكيف يطير لي عشو عصفور منكسر.. مكسور جناحو.. ما نسيناك.. جايي تعمل إيه معانا بعد ما بدلتنا)؟ قلت بعد نهاية الحلقة لأبي بكر يا أخي أنت تمتلك أحد أجمل الأصوات الموجودة في الساحة الفنية السودانية، حالياً فلماذا لم تنل حظك من الشهرة؟ رد بتواضعٍ شديد مؤكداً أنه يثق في قدراته وينتظر أن تأتيه الفرصة من وسائل الإعلام. بعد ذلك بفترة ظهر ذلك الشاب الموهوب عبر عدة قنوات فضائية، وشاركني كثيرون الإعجاب بموهبته وصوته الجميل، ثم ظهر في حلقة قدمها الأستاذ الصحافي الكبير حسن ساتي رحمة الله عليه عبر قناة الشروق واستضاف فيها فنان إفريقيا الأول بمعية الفنانة أسرار بابكر فأسهمت في تلك الحلقة في إلقاء الضوء على موهبته الجميلة. غنى أبو بكر لوردي (هجرة عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو) وغنى (الصورة) فاهتز الأخير طرباً، وتحدث عنه مشيداً وذكر أن ابنه مظفر طلب منه الاستماع إلى أبي بكر وقال له: أريدك أن تستمع إلى شاب سمعته يغني فوضعت العود على الأرض إعجاباً به، واستجاب وردي لطلب ابنه، وقال إن أبا بكر أدهشه تماماً لأنه يمتلك صوتاً قوياً وحنجرة متمكنة ووعد بإهدائه لحناً يليق بقدراته العالية. وعهدنا بمحمد وردي أنه لا يجامل أبداً، ولا يجيد تنميق الكلام، والإشادة لا تصدر منه إلا لمن يستحقها. غنى أبو بكر سيد أحمد رائعة حميد أبو عشر الشهيرة (غضبك جميل زي بسمتك) فأطرب البشر والشجر والحجر، ووضع بصمةً كبيرةً على مسيرة شاعر لم ينل حظاً يذكر من التعليم وأنتج لنا رغم ذلك عدداً من أجمل الأغنيات في تاريخ الفن السوداني، وقد حشد ابن مدينة أبي عشر الجميلة في تلك الأغنية البديعة ألواناً من الطباق والجناس والمحسنات البديعية بما لا يتواءم مع مستوى تعليمه، وكشف عن موهبةٍ فطرية صقلها حس عالي وقلب محب للحسن والجمال. قال حميد أبو عشر في تلك القصيدة البديعة: (غضبك جميل زي بسمتك.. حكم الغرام بتذللي.. حكم الغرام بتدللك.. الاشتياق والاحتراق والوجد لي.. الابتسام والانسجام والحسن لك.. عجباً تكون قاسي ووديع.. شكلك بديع.. وغضبك جميل زي بسمتك)! (نظرت عيوني لمحنتي.. وسحر الجمال في بهجتك.. خايف خدودك تنجرح من نظرتي.. خايف فؤادي يذوب غرام من جبرتك.. جرت وجفيت وجفاك مريع.. يا آية المعنى الرفيع.. وغضبك جميل زي بسمتك.. كيف الخلاص يا دنيتي.. ما بين صدودك وجبرتك.. أراك بعيد لكن قريب عن رؤيتي.. من بعد ما أوقعتني في فتنتك)! ويحفظ محبو الفن السوداني الأصيل للشاعر حميد أبو عُشر قصيدته البديعة (وداعاً روضتي الغناء) والتي ترنم بها أبو الفن السوداني الكاشف رحمة الله عليه وأمتع بها محبي الفن الجميل عبر الأزمان: (طويت الماضي في قلبي.. وعشت على صدى الذكرى.. وهذا الدمع قد ينبئ.. بظلم المهجة الحيرى.. لماذا الهجر يا حبي.. لماذا دهرنا ضن؟ وشبّع روحي باليأس.. ماضي الحب والطهر.. ليالي نقطع الليل.. بحلو النجوى والشعر.. نسيتي ليل إذ كنا.. نفدي النفس بالنفس.. أظل أردد الشكوى.. لما لاقيت من وجد.. حبيب الروح لا أقوى.. على حمل الهوى وحدي.. ولما لم أجد سلوى.. كسرت إبريقي والدن.. وسكبت على الثرى كأسي.. وداعاً روضتي الغنّاء.. وداعاّ معبدي القدسي)! إننا ندعو كل محبي الغناء الآسر للاستماع إلى أبي بكر سيد أحمد المتمكن، ونرجو أن يجد حظه من الإنصاف لدى وسائل الإعلام، ونثق أنه يمتلك كل المؤهلات التي تجعله يضيف بعداً جديداً لمسيرة الغناء السوداني، ليصبح امتداداً لعمالقة كبار أسهموا في صياغة وجدان الشعب السوداني، ومنحوه أجمل الأحاسيس وحلقوا به في فضاء الإبداع الآسر والفن الراقي. ونحيي عبره الهدندوي المبدع أبو آمنة حامد، والشاعر المرهف حميد أبو عُشر والفنان الإنسان أحمد الجابري ونترحم على أرواحهم ونقدر حسن صنيعهم وإبداعهم الباقي على مدى السنوات.