(في النيولوك.. وتصفيفة الشعر، الجديدة) وبكامل أناقتها، جلست السيدة كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.. تحمل (جراباً..) ينتظر الإنقاذيون حلحلة رباطه والكشف عن محتوياته على أحر من الجمر، ولهين.. قالت كلينتون: (لدينا مسؤولية التأكيد على أنه في الوقت الذي نركز فيه اهتمامنا على ما يدور بالمنطقة العربية، لن ندع السودان يتحول ليصبح الصومال ونحاول جاهدين استخدام مساعداتنا الخارجية في طريق إيجابي ومؤثر، وما نريده بشكل خاص هو أن نكون مؤثرين في ما يحدث من تحول في مصر ولكن علينا البقاء متيقظين إزاء الأطراف الأخرى التي تتحرك أيضاً لأن لدينا احتياجات للطاقة، على سبيل المثال.. إن المنطقة العربية تمر بفترة تغيير وإن هنالك الكثير من الأمور على المحك، حول ما يدور في المنطقة).. أخبار اليوم 4/3). تتحدث كلينتون هنا عن أن أمريكا لن تقبل بأن يصبح السودان صومالاً أخرى وفق واقع التغيير الثوري الذي تشهده المنطقة العربية واحتمالات انعكاسه على السودان، وتقول بأن أمريكا ستستخدم مساعداتها الخارجية بطريقة إيجابية، ولو ربطنا قولها هذا بإشادة الإدارة الأمريكية ورضاها عن الطريقة التي سار بها استفتاء مصير الجنوب، ووعودها بالنظر في أمر العقوبات الواقعة على حكومة الإنقاذ كمكافأة.. يبدو أن ما قالته كلينتون أمام مجلس الشيوخ قد أثار تفاؤل الإنقاذيين بما يحويه جراب السيدة كلينتون، أي موقف أمريكي يُعمِّق من أوتاد خيمة الإنقاذ، حتى لا تعصف بها رياح التغيير الثوري الماثل. ففي مقابل أقوال هيلاري عبَّر وزير الخارجية، علي كرتي، عن تفاؤله: (بأن تعمل واشنطن على رفع العقوبات الاقتصادية وشطب اسم السودان من قائمة الإرهاب) – صحيفة أخبار اليوم 4/3). فما هو معيار الصواب في تفاؤل حكومة الإنقاذ بحدوث تحول إيجابي في الموقف الأمريكي السالب تجاهها؟ نكتشف ذلك من تفسير العلاقة بين عبارات كلينتون في أقوالها الواردة هنا.. تحدثت كلينتون عن احتياجات أمريكا للطاقة وأهمية المنطقة العربية بالنسبة لأمريكا وأن التغيير الحاصل فيها سيتواصل، وسيضع (الكثير من الأمور على المحك بسبب ما يدور فيها). وحقيقة فالتغيير الديمقراطي في المنطقة العربية يضع المصالح الأمريكية تحت منظار رأي عام عربي معادٍ لأمريكا، وحديث كلينتون هنا مع ربطه بأقوال لها في حوار أجرته معها قناة الجزيرة عن حالة مصر، بعد الثورة، يكشف لنا عن مساعي أمريكا لكبح رياح التغيير الديمقراطي في المنطقة العربية بخلق أنظمة ديمقراطية تعرف أحزابها كيف تتفاعل مع المصالح الأمريكية في حالة وصولها إلى السلطة.. أنظمة ديمقراطية محروسة بجيش موالٍ لأمريكا.. وهو الوضع الذي تريد تعزيزه في مصر. وفق احتمالات إيجاد مثل هذه الأنظمة الديمقراطية المحروسة بالجيش.. أعلنت أمريكا عن ترحيبها بوصول الإخوان المسلمين للسلطة في مصر عن طريق الانتخابات.. ويبدو أن إعلان أمريكا عن قبولها بالإخوان المسلمين في مصر، قد حرك آمال الإنقاذيين في أن تتصالح أمريكا معهم هم أيضاً.. وآمال وتطلعات الإنقاذيين في أن يكشف جراب السيدة كلينتون أمام مجلس الشيوخ (عن معالم الدرب الأخضر في علاقة أمريكا بالإنقاذ).. آمال وتطلعات الإنقاذيين هذه، يبوح بحقيقتها موقف أمريكا من الإخوان المسلمين في مصر وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وهما يلتقيان مع الإنقاذ في التوجه الإسلامي، أضف إلى ذلك موقف أمريكا من معمر القذافي، في ليبيا، إذ ننظر إلى موقف أمريكا من حكومة الإنقاذ، الموعودة بالتغيير الثوري، ننظر إليه في ضوء موقفها من الجهات الثلاث المذكورة، وهذه المقارنات ستكشف لنا عن إستراتيجية أمريكا الجديدة في ما يخص الأنظمة السياسية في المنطقة العربية والسودان، وأيضاً فأمريكا راضية عن تركيا، فتجربة تركيا هي من النماذج التي قد تجربها أمريكا في المنطقة العربية بشاهد ما يجري الآن في مصر، وأيضاً نحن نستصحب السيدة كلينتون، وكُنا قد أشرنا إلى حوار أجرته معها قناة الجزيرة تحدثت فيه عن الجيش المصري وأن المساعدات التي تقدمها أمريكا للجيش المصري ستثمر وتؤتي أُكُلها، وأن دور الجيش المصري في التحول الديمقراطي سيكشف عن نتائجه التاريخ.. وتحدثت كلينتون عن الخطر الإيراني وإمكانية استغلال إيران للتغيير الحاصل في المنطقة العربية لصالحها، ونستنتج من حديث كلينتون عن ما سيكشف عنه التاريخ من دور للجيش في مصر، بأن الجيش سيكون صمام أمان لضمان التحول الديمقراطي وحراسة الديمقراطية فيها، وكنا قد تحدثنا في مقال سابق عن الاتصالات المستمرة بين الجيش المصري ووزارة الدفاع الأمريكية في أثناء ثورة مصر.. ولكن يبدو أن رياح التغيير في مصر أقوى من (مصدات أمريكا)، فقد أبقى الجيش على حكومة أحمد شفيق (الخاصة بمبارك).. ولكن ثوار مصر حكموا على شفيق وحكومته بالتنحي وجاء بعده عصام شرف رئيساً للوزراء، ليؤدي القسم أمام الثوار في رمز الثورة (ميدان التحرير). هذا عن دور الجيش المصري كما تراه أمريكا كصمام أمان للتحول الديمقراطي في مصر، وفي المقابل جاءت الإنقاذ للسلطة بإنقلاب عسكري، فهل يأمل الإنقاذيون في رضا أمريكا على استمرارهم في الحكم (بلا عقوبات بل وبمساعدات تبذلها لهم أمريكا، كما قالت كلينتون أمام مجلس الشيوخ عن السودان والصوملة؟ وهو ما حرك آمال الإنقاذيين كما رأينا).. أي أن تلعب الإنقاذ دور صمام الأمان لتحول ديمقراطي في السودان وتحقيق علاقة متفردة ومأمولة مع أمريكا، دفعت الإنقاذ عربونها مقدماً في عونها لأمريكا في حربها على ما تصفه بالإرهاب. قلنا إن مما يجعل الإنقاذيين يأملون في حدوث تحول أمريكي إيجابي تجاههم هو موقف أمريكا من الإخوان المسلمين في مصر.. وأيضاً في رفقتنا صاحبتنا وزيرة الخارجية الأمريكية، السيدة هيلاري، التي (أكدت بأن الإدارة الأمريكية لن تعارض وصول جماعة الإخوان المصرية للسلطة في البلاد ما دامت تنبذ العنف وتلتزم بالديمقراطية وحقوق كل أبناء المجتمع، وأكدت على حق المصريين في اختيار رئيسهم – أخبار اليوم 4/3، نقلاً عن العربية نت). إذن قبلت أمريكا بإخوان مصر، وفي حديثها أمام مجلس الشيوخ، أشارت كلينتون إلى أن رياح التغيير في المنطقة العربية وضعت المصالح الأمريكية على المحك.. فما هو المطلوب الإضافي من الإخوان المسلمين في مصر بمعيار المصالح الأمريكية الأمر الذي لم تذكره كلينتون هنا؟ وفي المقابل ما هو المطلوب من الإسلاميين الحاكمين في السودان.. وماذا فعلوا في سبيل إرضاء الطالب والمطلوب؟ لا شك في أن الولاياتالمتحدة تنظر إلى تجربتها مع حزب التنمية والعدالة في تركيا بعين الرضا، فهو قد أجاد فن المساومة مع أمريكا؛ إذ لا يجد حزب العدالة الإسلامي، تعارضاً بين انتمائه الإسلامي والتحالف مع أمريكا، وهذا هو ما تريده أمريكا من الحركات الإسلامية الأخرى، الموصوفة بالاعتدال. قياساً بمطلوبات أمريكا للقبول بالإخوان المسلمين في مصر، فإن حكومة الإنقاذ تعاملت مع أمريكا بالدفع المقدم.. (تعميماً لحالة كهرباء الدفع المقدم في الداخل، لتشمل السياسة الخارجية.. ولكن على الحكومة هذه المرة).. تعاملت حكومة الإنقاذ مع أمريكا بالدفع المقدم وذلك بعونها المعلوماتي لها في حربها على الإرهاب.. ولكن بلا مقابل فما تزال أمريكا تصنفها في قائمة الإرهاب والعقوبات الواقعة عليها مستمرة.. والعون المعلوماتي هذا يضعنا أمام حالة مشابهة لحالة الإنقاذ وقع فيها المحظور الأمريكي (ثورة الشعب) وهي حالة ليبيا، تخلت ليبيا عن برنامجها الخاص بأسلحة الدمار الشامل وفتحت أبوابها للشركات الأمريكية للاستثمار في ليبيا وتخلت عن خطابها الإعلامي والسياسي الشامل المهاجم للإمبريالية الغربية بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية وتعاونت مع أمريكا في حربها على ما تصفه بالإرهاب. ومثلما فعلت ليبيا فعلت حكومة الإنقاذ: تعاونت الإنقاذ مع أمريكا في حربها على الإرهاب وأوقفت الهجوم الإعلامي على الإمبريالية الغربية وأمريكا.. وكان هذان العاملان من أسباب خلاف الإنقاذيين وانقسامهم.. أما عن الاستثمارات الأمريكية فالإنقاذيون لا يجدون حرجاً فيها وهي عندهم (عز الطلب). ولكن في مقابل تنازلات القذافي وعندما تأكد لأمريكا أن رياح ثورة ليبيا عاتية، طالب الرئيس الأمريكي أوباما، طالب القذافي بالتنحي معلنا أن القذافي أصبح بلا شرعية.. وفي المقابل فأمريكا تعلم بأن التلاعب شاب انتخابات الفترة الانتقالية في السودان، ومع ذلك تجاهلته في الطريق إلى استفتاء تقرير مصير الجنوب وانفصاله، وهو أمر حققته لها الإنقاذ و(بسلاسة مشكورة من أمريكا.. وعلى وجه الخصوص من السيدة كلينتون) بفعل هذا وبفعل كل التنازلات التي قدمتها الإنقاذ لأمريكا، هل ترضي الأخيرة عن بقاء الإنقاذ في الحكم؟ ها نحن نقف أمام السيدة كلينتون وهي تفتح جرابها وننظر في محتوياته: رياح الثورة لو اجتاحت السودان فمثلما حدث في ليبيا ستتراجع أمريكا عن وعودها للحكومة – الزائفة أصلاً – ولكن في العلن.. ومن حديث كلينتون أمام مجلس الشيوخ يبدو أن أمريكا ترغب في إقامة مصدات لرياح الثورة في السودان خوفاً من الصوملة.. ولكن ما هو سقف مساومتها لحكومة الإنقاذ؟ ما يهم أمريكا في الأساس هو التوصل لحل مشكلة أبيي حلاً ترضى به حكومة الجنوب، وبعدها، وعن تفاؤل الإنقاذيين بمخاوف أمريكا من اندلاع ثورة في السودان، ما يعني منعها على وجه الخصوص من جهة دارفور، فإن ترياق أمريكا للثورة في السودان بالضغط على حركات دارفور، لن يصب في مصلحة حكومة الإنقاذ، كما يتمنى الإنقاذيون. انعكس متغير اندلاع الثورات العربية على سلوك أمريكا في حديث وزيرة الخارجة الأمريكية سالف الذكر.. فما هو موقف الأطراف الثلاثة: الحكومة، حركات دارفور، وأمريكا، ما بعد الثورات؟ من نتائج الثورة في ليبيا: محاصرة خليل إبراهيم المقيم هناك وحرمانه من الملاذ الآمن والدعم المادي والعسكري، وقد صدرت الاستغاثات من جماعة خليل ودعوا الأممالمتحدة إلى إنقاذ زعيمهم من ليبيا، قائلين بأن حياته في خطر بعد اتهامه بأنه يمد الرئيس الليبي معمر القذافي بالمرتزقة، وأعلنوا أنهم مستعدون للعودة إلى محادثات السلام الشامل مع الحكومة، وأصروا على عدم وجود صلة بين استعدادهم للتوجه إلى الدوحة للتفاوض مع الحكومة وضروة إجلاء زعيمهم. ولكن واقع الحال في ليبيا يقول بخطر وجود خليل إبراهيم في ليبيا، على حياته فعلاً، كما أن ضبابية الوضع في ليبيا تهدده بانقطاع دعم القذافي له، كورقة كان يستخدمها القذافي ما قبل الثورة.. هذا عن موقف حركة العدل والمساواة، أي أنها أصبحت في وضع ضعيف قد يدفعها إلى توطئة سقف مطالبها في التفاوض مع الحكومة. عن موقف حكومة الإنقاذ.. لم تفوِّت الحكومة الفرصة.. فحددت موعداً نهائيا للتوصل لحل في دارفور وبعده ستعتمد الحكومة الحل من الداخل إذ (أبلغ الوفد الحكومي لمفاوضات الدوحة، الوساطة المشتركة بضرورة حسم وطي ملف مفاوضات دارفور قبل منتصف شهر مارس.. الأحداث 2/3). وقال د. غازي صلاح الدين، مستشار رئيس الجمهورية، ومسؤول ملف دارفور، في تصريحات صحفية في مطار الخرطوم عند عودته الأخيرة من الدوحة.. قال: (إن استراتيجية السلام لا تقتصر على المفاوضات في الخارج فقط بل تتبنى عدة محاور للسلام، ولهذا السبب قمنا بزيارات متعددة لدارفور وعملنا على دفع النخبة والمصالحات بين القبائل والمجموعات).. الصحافة 3/3). إذن فالحكومة تستغل وضع خليل إبراهيم الضعيف، ما بعد الثورة في ليبيا، للضغط عليه بوصفه زعيم أقوى حركات دارفور ودفعه لتقديم تنازلات تراها هي، وتلوح بورقة التوصل لصلح دارفوري من الداخل. وعن أمريكا فإن موقفها قد طرأ عليه التغيير أيضاً، بأثر من ثورات مصر وليبيا وتونس، كما قالت كلينتون، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن قررت ابتعاث اثنين من كبار الدبلوماسيين لتعزيز السلام في الجنوب وتسريع العملية السلمية في دارفور. السلوك الأمريكي يأتي كاستجابة لما صرحت به كلينتون بأن أمريكا لن تسمح بصوملة السودان، بمعنى تفادي نشوب ثورة من أبرز عناصرها حركات دارفور المسلحة، فأمريكا أيضاً قد تستغل الوضع الضعيف لخليل إبراهيم ودفعه لتقديم تنازلات، ولكن ليس كما تتوهم حكومة الإنقاذ بأن أمريكا تعمل على تفادي الثورة، وتقديم المساعدات للحكومة استنتاجاً من أقوال كلينتون، وربما الإقرار ببقاء الإنقاذ في الحكم كصمام أمان للتحول الديمقراطي.. فأمريكا تدرك حقيقة تدهور الأوضاع الاقتصادية في السودان خاصةً بعد خروج البترول من الموازنة العامة، وتدرك بالمشاركة التلاعب الذي حدث في انتخابات الفترة الانتقالية وبالتالي التشكيك في شرعية حكومة الإنقاذ – وبمقارنتها للأوضاع في السودان بتجارب الثورات العربية وعلى العكس مما تتوهم حكومة الإنقاذ، فأمريكا تتوقع احتمال بلوغ الوضع في السودان حالة الثورة، وهي بالتالي تريد تحقيق ديمقراطية محاصصة في السودان سبق أن بشَّر بها مبعوث أوباما للسودان، سكوت غرايشن، وبما أن أمريكا تهدف إلى هندسة المحاصصة في السلطة والثروة، فهي بالتالي تسعى لضمان سيطرتها على الأوضاع بما يحقق مصالحها وتفادي الصوملة ونشوب الثورة، كما قالت كلينتون.