ازدحمت صباح أمس القاعة الكبرى بمركز الشهيد الزبير بعدد كبير من الناس بمختلف انتماءاتهم السياسية واتجاهاتهم الفكرية والمعرفية، بعضهم ربما قدمت له الدعوة من «منتدى النهضة والتواصل» لحضور ندوة «الثورة التونسية وآفاق المستقبل». والبعض الآخر قد يكون اطلع على تفاصيل هذا المنشط في الصحف ودفعته رغبة الاستماع إلى المفكر الإسلامي راشد الغنوشي المتحدث في الندوة إلى حضورها لرسم صورة تقريبية لما حدث في تونس أو التعرف على آرائه حول ما يدور في دول عربية أخرى. لا يشفع لدولة أن تتستر بأي غطاء أيديولوجي إذا ارتكبت موبقات الثورة التونسية أضاءت طريق الحرية أمام العالم العربي الغنوشي دخل القاعة بصحبته شخصيات معروفة من حزبي المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في مقدمتهم الوزير عثمان البشير الكباشي ومحمد الأمين خليفة وفي القاعة كان عبد الله حسن أحمد حاضراً، بجانب بعض الدبلوماسيين من «الوطني». الغنوشي قدم سرداً شاملاً حكى فيه تفاصيل نجاح ثورة بلاده ووضع شروطاً قال لا بُد من توفرها لتغيير الأنظمة ووصفة اعتقد أنها مغرية لتحقيق الأهداف بأقل تكلفة. الحضور على ما يبدو من ملامحهم العامة استمتعوا بهذه المحاضرة التي كشفت داء الأنظمة وقدمت وصفة الدواء بانتباه شديد، وعندما فتح مقدم المحاضرة؛ د. عصام أحمد البشير، باب النقاش لاحظنا أن عضوية الحركة الإسلامية المنشقين إلى مؤتمر وطني ومؤتمر شعبي والموجودين داخل القاعة كانوا أكثر رغبة في طرح الأسئلة على الشيخ راشد الغنوشي، حتى أننا سمعنا أصواتاً تحتج للمنصة على عدم منحها الفرصة، فيما وقف آخر محتجاً على مداخلة القيادي بحزب الاتحادي الأصل؛ أبو الحسن فرح، حينما سأل الغنوشي عن إمكانية تكرار ما حدث لتونس في السودان طالما أن الحركة الإسلامية انقلبت على الديمقراطية (حسب تعبيره). الغنوشي بعد رؤيته هذا المشهد، دلف مباشرةً في إجابته، إلى الحديث عن الغرب الذي أتقن فن التعايش السلمي والحوارواختار الانتقال بالصراع من العنف والإقصاء إلى تبادل الاعتراف بالمواطنين بمختلف الأيديولوجيات، واعتبر أن الحوار المفتوح الذي يحترم فيه الناس بعضهم البعض هو السبيل الوحيد لحل المشكلات - أو كما ذكر راشد الغنوشي - واستطرد قائلاً: نحن منذ الخلافة الراشدة نلجأ إلى الحل بالوسائل العنيفة وننسى أن الأوطان هي ملك للمواطنين وليس الدولة. أما الشيخ عبد الحي يوسف فقد قدم أسئلة فقهية عن رأي الإسلام في المظاهرات والخروج على الحاكم. وأقر الغنوشي في رده، على أن المظاهرات من الأعمال السلمية دون أن يطال ذلك تخريب وهي أسلوب من أساليب التعبير وحث الدول الإسلامية كذلك على نصرة المظلومين وقال يجب أن نلتقي في هذا الجانب مع كل الحركات التي تحارب الظلم الدولي.. نحاول عبر هذا الايجاز استعراض أبرز محاور اللقاء. { الثورة في تونس كانت جراحة كبرى عدَّد المفكر راشد الغنوشي في بداية حديثه الأسباب التي تجعل قيام الثورات الشعبية ممكناً، مبتدراً هذه الأسباب بغياب الإصلاح الاجتماعي؛ حيث أشار إلى أن المجتمعات قد لا تخلو من المفاسد ولكن عندما تكون محدودة يمكن معالجتها بالإصلاح، كما هو الحال في الطب؛ فالأمراض بعضها يعالج إلا أن هناك عللاً لا بُد فيها من الجراحات الكبرى، والثورة الشعبية في تونس كانت جراحة كبرى ابتغاءً للتغيير. ومضى في القول: فالتغيير التدريجي إذا استحال واستشرى الفساد في قطاعات الدولة وأصبح هناك عالمان: عالم النخبة الممسكة بمفاصل الثروة والإعلام، وعالم الناس؛ تلقائياً يحدث الانفصال بين النخبة الحاكمة وعامة الناس وعندئذ يكون هناك عامل من عوامل الثورة قد تحقق. ولهذا السبب - بحسب الغنوشي - فإن الرئيس التونسي المخلوع بعد مضي شهر على الثورة الشعبية قال للشباب لقد فهمتكم. لكن جاء الفهم متأخراً - كما ذكر. إذن - والحديث لراشد - إن النخبة الحاكمة في تونس انفصلت بالكامل عن المجتمع ولم تكن تحس بألمه. { الإعلام الخشبي لم يقنع الناس كذلك من شروط الثورات تراكم المظالم وأدوات القمع، فمنذ (50) عاماً الدولة في تونس في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر، وتعالج الدولة هذه الفجوة باستخدام أجهزة القمع والإعلام الخشبي الذي يخاطب الناس من بعيد، يتحدث عن جنة والناس يعيشون في جحيم وهذه اللغة الخشبية لم تنجح في إقناعهم، وتونس تاريخها الحديث عُرف بقمع المظاهرات حتى بعد مجيء الحركة الوطنية التي تلخصت في الزعيم. فالحركات المعارضة من النقابيين واليساريين قُمعت منذ السبعينات وأخيراً في التسعينات كان قمع الإسلاميين الذي شمل (30) ألفاً من ابناء الحركة الإسلامية ومُنعوا من اعتماد حركتهم كحزب سياسي. لكن في بداية التسعينات كانت الهجمة شرسة وعندما تراكم الغضب والألم قام أحفاد تلك الأجيال التي قُمعت بالثورة وانتصروا لآبائهم وأجدادهم الذين لم يتمتعوا بالحرية في تونس. وأكد الغنوشي وجود علاقة بين العدل وأجهزة القمع؛ فكلما اتَّسع العدل قلت الحاجة إلى هذه الأجهزة، وفي السيرة أن أقوى حاكم في العالم كان ينام تحت شجرة حتي انبهر آنذاك سفير فارس قائلاً: «عدلت، فأمنت، فنمت»، ونوّه إلى أن عدداً من الإسلاميين في تونس مُورس عليهم أشد أنواع القمع؛ حيث لقي عشرات منهم حتفهم تحت التعذيب فيما مُنع آخرون من العمل وحمل الجواز التونسي، وحتى إذا أراد أحدهم تزويج ابنته يتدخل الأمن لإفساد الزيجة. إذن، وجود القمع كان يعني أن شرطاً آخر من شروط الثورة قد تحقق، وإذا حدث ذلك في بلد يكون دلالة على أن مشروع الإصلاح قد فشل، كما أن تراكم الظلم هو نذير بنجاح مشروع الثورة وليس الإصلاح التدريجي. { مافيا الرئيس احتكرت السلطة كذلك هناك مقوِّم أخر للثورة ارتبط بتراكم الفساد واحتكار السلطة من قبل المجموعة الحاكمة، حتى تحوَّلت إلى عصابة نهب لثروات تونس. فالحكومة احتكرت القضاء والإعلام والثروة والسلطة ولم يعد هناك أُطر ومجالات للتعبير وأُفرغت مؤسسات الدولة، وجزم أن الحكومة في تونس تحوَّلت إلى أسرة حاكمة مالكة تضم أصهار وأقارب الرئيس المخلوع ابن علي وزوجته وهؤلاء أصبحوا يتحكمون في الاستثمارات وهذا الأمر أغضب حتى شريحة الرأسماليين، الذين عانوا من انعدام الشفافية ولهذا السبب كُثر الحديث عن الطرابلسية ونفض الناس أيديهم من أي مشروع إصلاحي، وحينئذٍ صارت الدولة جهاز مافيا تحتكر الثروات والإعلام، وقال إن ابن علي حاول القضاء على حركة النهضة التونسية من خلال القضاء على جذور الثقافة الإسلامية في المجتمع ممثلة في منع الحجاب وإطلاق العنان لكل صنوف الفساد، رغم ذلك كان ابن علي يصف نفسه بأنه حامي الوطن والدين ويستصحب معه أصحاب العمائم في المناسبات ومنذ ذلك الحين انفصلت الدولة عن ثقافة المجتمع، كذلك انفصلت الدولة عن ولاءات الناس الخارجية؛ فالقضية الفلسطينية كانت عميقة في نفوس التونسيين وهم متفقون حول الولاء لها، والدليل على ذلك أنها كانت ضمن شعاراتهم أيام الاعتصامات. أما النظام فقد ركب الموجة العالمية وقطار الغرب وقدم نفسه كأفضل نموذج في القضاء على ما يُسمَّى بالأصولية، لذلك تم دعمه وقُبلت تونس كشريك للاتحاد الأوروبي وبلغ الأمر إلى حد وجهت فيه الدعوة إلى «شارون» الأمر الذي استفز مشاعر الناس بمن فيهم اليساريون وقال بعضهم لن يمر «شارون» إلا على أجسادنا فتجنب الطاغية ابن علي هذه المشكلة. فالدولة انفصلت داخلياً وخارجياً عن المجتمع هذا ما فعله ابن علي { الأيدولوجية لا تشفع للأنظمة لكن من ناحية عامة لا يشفع لدولة أن تتستر بأي غطاء أيديولوجي إذا ارتكبت موبقات. فإيران مثلاً سيكون مصيرها معلقاً بين قيام ثورة من عدمه بقدر إقدام قادتها على إصلاحات تعيد الثورة فيها إلى أصلها كما كانت في بدايتها. { الوصفة مغرية وتحدث في الشق الأخير من الندوة عن إنجازات الثورة الوليدة قائلاً: الإنجازات التي أفرزتها الثورة ليست قليلة، أولها أن الثورة التونسية أضاءت طريق الحرية أمام العالم العربي وأصبح اسم تونس مقترناً بالحرية والعدل، وأطاحت بنظام ديكتاتوري بالوسائل المتاحة لهذا الشعب البسيط، وأنا قلت هذا إنجاز لأن العالم الذي يكتوي بالديكتاتورية سيفكر في هذه الوصفة لأن الجزائر قبل ذلك دفعت (4) ملايين ولم تحصل على التغيير، لذلك هذه الوصفة ستكون مغرية، فعدد الشهداء الذين فتحوا طريق الحرية كانوا (250) شهيداً والجزء المهم من هذه الوصفة أنها لم تكن ثورة حزب أو زعيم أو أيديولوجيا محددة وإنما كانت ثورة شعب رفع شعارات إنسانية ضد الظلم والفساد والاستبداد وهذا ما حدث في مصر. { علاقة حركة النهضة بالثورة حركة النهضة الإسلامية تعتبر من أهم الكاسبين، وقطعاً الثورة كانت لمصلحة كل الثائرين لأنها استطاعت إسقاط الخوف وتغيير موازين القوى بين الدولة والمجتمع، حيث أصبحت الدولة تبحث عن اعتراف المجتمع، وقال حركة النهضة اليوم تعمل ضمن أحزاب وطنية كثيرة لإنجاح عملية التحوُّل الديمقراطي وبناء الدولة وإعادة التوازن بين الجهات المتميزة والمحرومة، لذلك نحاول مع منظمات المجتمع المدني الإسهام في كل الأصعدة حتى تكون المشاركة فعالة. { العالم تغيَّر وتحرير القدس أصبح ممكناً ولفت الغنوشي الانتباه إلى أن الوضع الدولي اليوم مساعد جداً، بل نحن أمام أوضاع دولية جديدة تعيش حالات عجز في إفغانستان والعراق وفلسطين، والرأسمالية أوشكت على الانهيار، لذلك لم تكن قادرة على إسعاف أصدقائها في المنطقة العربية وربما تكون هذه الدول شريكة في إسقاط هذه الأنظمة لأنها لم تتقدم لإيواء حكامها. أيضاً لا بُد أن نستشعر أن العالم العربي الإسلامي دخل مرحلة جديدة توفر فرصاً للقرار المستقل وتحرير القدس، فالطريق الآن أصبح مفتوحاً والمرحوم الشيخ أحمد يس توقع أن تحرر في (2025م) والآن أصبح هذا التوقع معقولاً وقد يتم قبل ذلك، ودعا الناس إلى الانتقال بأفكارهم إلى هذا العالم الجديد. وقبل الختام أبدى تألمه مما يحدث للشعب الليبي من قمع، وقال ليبيا كان يمكنها تجنُّب هذا المصير إذا مضى مشروعها الإصلاحي الذي أسهم فيه الإسلاميون في طريقه، لكن تم الزحف عليه وأُغلق باب الإصلاح وانفتح الباب أمام الثورة، وتمنى أن ينجز الشعب دولته، وتوقع أن يصل الشعب الليبي إلى هدفه.