{ ليست الصحافة السودانية الوطنية وحدها، ولكن حتى أصدقاء الحركة الشعبية من الغربيين، قد تحدثوا منذ وقت مبكر بأن دولة الجنوب المحتملة لم تكن إلا إضافةً إلى «دول القرن الأفريقي الفاشلة»! { ولقد نهضت تلك القراءات على ركائز حقيقية موجودة على الأرض، وليس من نسج الخيال، فعلى الأقل أن هذه الدولة سترتكز على «القبيلة والسلاح والجوع»! { كانت هنالك فرصة هائلة أمام الحركة الشعبية في أن تصنع من عائدات البترول، التي بلغت مليارات الدولارات، أن تصنع منها مشاعل للعلم والمعرفة ومؤسسات لدولة القانون، ومشافي ومزارع ومصانع لصناعة «الحياة الجديدة»، وتصالح مع كل المكونات الجنوبية. { لكن الحركة الشعبية «لصناعة السودان الجديد» - يرحمه الله - ذهبت باتجاه تحويل الجنوب إلى «مخزن سلاح كبير»، على افتراض أن المعركة المقبلة ليست هي معركة للبناء والتنمية والعمران، وتعويض شعب الجنوب ما افتقده من فرص للحياة والرفاهية خلال سني الحرب. { لكن «العقلية الثأرية» التي تقود الحركة الشعبية، التي يمثلها بامتياز الثائر الماركسي فاقان أموم، قد ذهبت بشعب الجنوب المغلوب على أمره في الطريق الخطأ، فلم يتنفس الصعداء بعد حتى بدأ التحضير لمحرقة جديدة تلبيةً لأشواق بعض الذين لم ولن يتخلصوا من مرارات الماضي. { وكانت تقديراتهم الخطأ تقول بأن «جنة الجنوب» ستنشأ مباشرةً حال الفراغ من رفع العلم وإراقة الأناشيد وإعلان نتائج الانفصال، ونيل «الاستقلال» والتحرر من عبودية الشمال! { لكن جهنم الآن تفتح أبوابها الثمانية في كل الاتجاهات وبكل الاحتمالات، والقادم أسوأ، إنه صندوق البارود الذي يتشكل من «القبيلة والفقر والسلاح»، وإنها لعمري دولة الانفجارات المتتالية؛ فكلما اطفأوا ناراً للقبيلة اشتعلت نارٌ للثأرات. { فمنذ إعلان نتائج تقرير المصير لم يحترق الشمال، ولكن الذي يحدث على شاشة الجزيرة، وليس على شاشة المؤتمر الوطني، هو الموت الجماعي في أكثر من صعيد جنوبي، بل لقد بلغ الأمر أن اغتيل وزير بالذخيرة الحية في وضح النهار وفي مجمع الحكومة! { ليخرج علينا بعد أحداث ملكال الأخيرة المؤسفة، التي راح ضحيتها منذ أيام مئات الأبرياء، يخرج علينا السيد فاقان أموم ليعلن أمام الملأ، أن الذي يجري في «الجنوب الجديد» ما هو إلا مؤامرة يقودها شخصياً الرئيس البشير! { أنا لا أعرف سوء أدب أفظع من هذا الذي يقوله السيد فاقان، بقوله من أركويتبالخرطوم وليس من نيو سايد، وكنت أتوقع بنهاية التصويت والاستقلال أن يتحمل الرجل أعباء «دولته الفاشلة» وأشكالها المعقدة، علماً بأن الأسوأ هو في الطريق. { وتكمن أزمة خطاب السيد فاقان في أن العالم كله يعرف أن الجنرال ألور ورفاقه لم يكونوا أعضاء بحزب الرئيس البشير، ولم ينطلقوا من «خور عمر» بأم درمان فهؤلاء الجنرالات لهم إشكالات معلقة مع حكومة السيد فاقان المتهمة بتزوير انتخاباتهم، وإنهم يمارسون أنشطتهم العدائية من أعماق دولة السيد فاقان! { فكان الأحرى بالسيد فاقان أن يترك «أركويت» فوراً ويذهب إلى عقر أزمته حيث تدور المعارك هذه المرة في مدنها الكبيرة، ليقوم بمهامه ومستوياته، لا أن «يصدِّر أزماته للخرطوم»، ويفترض أن أزمنة تصدير الأزمات قد ولّى بعد اختيار الانفصال. { وبالمناسبة، هل يستطيع أي وزير من دولة الشمال الآن أن يذهب إلى جوبا ويعقد مؤتمراً صحفياً عاماً «ويسب» فيه رئيس دولة الجنوب السيد سلفاكير ويوجّه له الاتهامات التي لا يسندها منطق ولا ترفدها قرائن! { فالسيد فاقان أموم ليس وزيراً اتحادياً، ولا أميناً لحزب في الشمال، وليس هنالك أية صفة دستورية تجعله يعقد المؤتمرات «ويكيل الشتائم» لرمز دولتنا وشرف قيادتنا من الخرطوم. { على الأقل «ما يبقن علينا اتنين» «ينبذوننا» ومن مدينة أركويت وأحياناً من المقرن فهذه الحكومة إن لم تكن قادرة على الحفاظ على شرفنا فلترحل اليوم وتسلمنا للسيد فاقان أموم ليضيفنا إلى دولته المستقلة الفاشلة!