قد تنجح دولة الجيش الشعبي لتحرير السودان في إقامة احتفالات بازخة على سفح (أحداث الانفصال)، احتفالات تريق فيها الأناشيد «الوطنية» وترفع أعلام «الجمهورية الجديدة» فوق سرايا قصر الحكومة وأطلال المواطنين وعوزهم ، قد تنجح حكومة السيد فاقان أموم في الاحتفال لمدة شهر، لكنها قد تفشل في إقامة دولة على مدار السنين القادمة، ليس صعباً أن ترفع علماً وتشهر نشيداً، لكن في المقابل وتحت ظلال سقف هذه الثقافة الاستبدادية، يصبح من الصعوبة بمكان إشهار الحريات ورفع معاناة شعب جاء من الأحراش والمنافي والحروبات المرهقة الطويلة. جاء على متن آماله ليرتاح تحت علم دولته الوليدة، جاء ليقول وداعاً للمعاناة الطويلة والأمراض المزمنة ورهق السنين، وما درى أن حكومة الجيش الشعبي بحماقاتها المتعددة وتصرفاتها المتشنجة، كما لو أنها تدفعه إلى أتون مصير جديد مجهول، وإن شعب الجنوب المغلوب على أمره والذي يفترض أنه قد أخذ كل حصصه وأنصبته من الرهق والمعاناة لدرجة الكفاية والترف، ستذهب به الحركة الشعبية لا محالة إلى ما فوق حد الكفاية من الموت والمرض والمسغبة. وحتى لا يقال أننا نبني بعض قصور الأوهام على رمال متحركة أو أننا نرسم صوراً سريالية لا مكان لها في جوبا وملكال والبيبور و.. و.. أو أنها «أشواق كاتب» يحمل بعض الغبن ولم يتخلص بعد من أدران المرحلة الماضية، فإن الشواهد على أرض «جمهورية جنوب السودان الوليدة ستمضي على ثلاثة مرتكزات شامخة وقوية، أعني مرتكزات «الفقر والقبيلة والسلاح»، فقد نجحت الحركة الشعبية خلال سني الاتفاقية في تحويل كل الأرصدة النفطية واستثمار كل العلاقات الدولية في استجلاب السلاح، حتى أضحى الجنوب عبارة عن «مخزن كبير للمتفجرات» من سابقه، ألا وهو سلاح «القبيلة» التي تؤججه الحركة الشعبية بجعل قبيلة الدينكا هي «القبيلة» الحاكمة مع اضطهاد الإثنيات الأخرى، وقد كان الشمال بمثابة ورق الفلين الذي يوضع بين ألواح الزجاج حتى لا «يتطاقش» وبعد سحب هذا الورق الواقي سيكون الزجاج في مواجهة الزجاج، ويقرأ ذلك مع حالات الفقر والمسغبة التي يرزح تحت وطأتها كل الشعب ما عدا النخب الحاكمة، فلا تندهشوا إذا شاهدتم يوماً على شاشة الأحداث جندباً جنوبياً لم يصرف راتبه لمدة ستة أشهر، وهو يدخل فرناً للخبز ليشتري خبزه «بقوة البندقية» وقوة السلاح، أو أن يبيع سلاحه ليشتري الحياة، وفوق ذلك كله فإن الحركة الشعبية دأبت على التنصل عن استحقاقات الكيانات الجنوبية الأخرى، بما فيها استحقاقات النسخة الأخرى من الحركة التي يديرها القيادي التاريخي لام أكول، والآخرون الذين يعرفون أدغال الجنوب وغاباته أكثر من السيد فاقان. ثم ليدرك هؤلاء الثوار أن «إدارة الدولة» بعقلية «الحركة المتمردة» ستفضي إلى «جهنم الجنوب الجديد» ولا زالت هنالك ملفات أبيي والحدود المشتركة والنفط والديون والمستقبل مع الشمال، ما زالت معلقة لافتعال معركة مع جمهورية الشمال، علماً بأن من أبجديات العمل العسكري أن تترك وراءك دولة متماسكة، عندها ما يكفيها من الخبز والحياة الكريمة وما يؤهلها لحماية ظهرك. معظم القراءات، وحتى قراءات الأصدقاء والمانحين تقول بأن هنالك «دولة فاشلة» وليدة ستنهض في هذا القرن الأفريقي المضطرب أصلاً، والذي لا تنقصه إضافة المزيد من الاضطرابات. مخرج.. مبروك للسيد فاقان أموم جمهورية «الفقر والقبيلة والسلاح والفساد».