{ دعوني أبدأ من هناك، كنا نلبِّي في إحدى المرات دعوة من أحد مديري المشروعات الزراعية، وقد ذهب السيد المدير بنا في رحلة مشروعات تفصيلية لمشروعه، فسلطنا عليه أقلامنا وكاميراتنا وأنظارنا، ثم تعتري الرجل المدير إحدى العثرات التي تجعله يتوقف عن الحديث، لكنه كان يمتلك من فن الحصافة والطرافة ما يجعله يتجاوز تلك المطبات بيسر شديد، فاستطرد قائلاً، وكنا نقف على سفح بيارة المشروع الضخمة، فقال: هل تشاهدون ذلك المهندس الذي يرتدي الابرول ويقوم بمعالجة تلك الماكينات أسفل البيارة؟ قلنا نعم. قال هذا المهندس هو الوحيد الذي يجيد شرح هذا المحور الهندسي الذي شقّ علينا، ولكنه قد اشترط علينا عند توقيع العقد أن يفعل كل شيء إلا «الكلام»، وقد قال لنا بالحرف الواحد، كلفوني بأي شيء، فقط «أحموني الكلام»، يقول المدير، كنت سأستعين به لشرح هذه المصطلحات لولا هذه الاشتراطات، ثم تجاوز الرجل المدير هذه الفقرة إلى ما بعدها. { بالأمس وأنا في طريقي إلى برنامج «الصباح الجديد» بالتلفزيون القومي، حيث طُلب منا أن نملأ تلك «المسافة الزمنية» من البرنامج التي تتعلق «بعمود صحفي» فقد درج هذا البرنامج على أن يستضيف «كاتب عمود» في كل صباح جديد. { في الطريق إلى التلفزيون طفقت أتأمل في الشقة الهائلة بين «صناعة المقال» وصناعة الكلام؛ فلكي أصنع مقالي اليومي لا أحتاج في معظم الأحيان أن أضرب أكباد الإبل، وأدق حجر الدغش، هذا إذا علمتم أن ليس بالإمكان أن تدرك «الصباح الجديد» إلا أن تتحرك بعد فريضة الفجر بقليل فحن قوم نقطن بمضارب الولاية الشرقية وليس ببيت المال، ولسنا من «الملازمين» للتلفزيون ولا أعرف إن كانت هذه هي «الاستضافة الخطأ» للكاتب الصاح أم الاستضافة الصاح للكاتب الخطأ. على أية حال إن التلفزيون لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أماكن سكنكم ولكنه ينظر إلى السطور التي في قلوب الصحف، ينظر إلى موقعك في سوق الصحافة، ينظر إلى بضاعتك التي تعرضها على قارعة الصحف. { إذن، التلفزيون هو الذي حدد سعر «الملاذات الآمنة» ورأى أنها تصلح «للصباح الجديد» أو أن الصباح الجديد يصلح لها، ولكن ليست هنا هذه القصة التي أضرب لها أكباد إبل مقالي وأتوِّر لها نَفَس خيل أسطري هذه، لكن فالفكرة التي خرجت لأجلها في هذا المقال تتعلق «بصناعة الكلام» وأنها لعمري لصناعة باهظة وأنت تكتب عشرات المقالات لا يجرؤ أحد ليسألك ماذا كنت تلبس وأنت تكتب؟ ولكن القصة تختلف تماماً وأنت تطل على السادة المشاهدين، فالسؤال الصامت الأول هو عن مظهر الملاذات التلفزيوني وربما ذوقها، على طريقة أرني ماذا تلبس أخبرك ماذا تقول، الثقافة التي عبّر عنها الشيخ فرح ود تكتوك «تحدث يا كمي قبل فمي» مع أن العرب قديماً قالت «تحدث لكي أراك» لهذا احتجت قبل أن أخرج إلى التلفزيون أن أقف طويلاً عند دولاب ملابس وهي وقفة لا أحتاج إليها عند ذهابي لكتابة مقالاتي فزادت شفقتي على زملائي التلفزيونيين وحمدت الله أن جعل سبل كسب عيشنا بعيدة عن تلك الشاشات. { مخرج: قيل، على عهد الراحل نميري، إن رجال النشرة الجوية طالبوا ببدل لبس أسوةً بمذيعي النشرات ومقدمي السهرات، فقيل لهم «عليكم فقط ان تظهروا عصيكم»! { شكراً إخواني: عباس، إدريس وكل فريق الصباح الجميل، شكراً لاستقبالكم الوسيم.