{ نحن ذرية قوم النيل يعني لهم كل شيء، النيل هو الحياة الأمل، هو الحاضر والمستقبل، هو التاريخ الذكريات الأشواق، الحياة كلها في ذلك الريف الجميل تُصنع من النيل، البيوت تُبنى من الجالوص النضير، الذي هو التراب المعجون بماء النيل، ثم تعرش البيوت من جريد النخل وسعفه (ومروق) الدوم والنخيل، النخيل الذي يشكل مهرجاناً على شاطئ النيل، ثم تُدهن هذه البيوت (بروث البهائم والبقر)، وربما تسعفني تلك القصيدة الحلمنتيشية التي كانت خلاصة حوار بين طالبين من جذور ريفية بعد أن رست بهما سفينة التعليم والحياة بجامعة الخرطوم في مطلع التسعينات، فالشاب كان مستعصماً بقيمه الريفية بينما انجرفت الفتاة في مدينة ذلك الزمن اللئيم، فأنشد قائلاً: «من بُكره حأربِّي الشَّعر وأفردو وأكويه وأربِّي معها كمان ضُفُر والبس قميص عجيب ألوانه زي سوط المطر في بطنه بقرة وڤيلا حافّيها الشجر تنس وتمثيل هو التمثيل كُفر وإنتي أنسي يا ثورية يا غجرية يا ذل الزمان يا غلطة الدهر ننسي تُكُلنا الضُلمه وبيوتنا المدهونة بروث البهائم والبقر لو كان قلبك صِبح فندق صحارى أو الهلتون المعتبر في كُل طابق يزيدوه طابق وفي كُل طابق يكتِّرو عدد الحُجر». { المهم في الأمر، النيل هو الزراعة، فالأهالي هناك يأكلون غرس أيديهم، وما فاض يذهبون به إلى المدينة، فيشترون بثمنه السكر والزيت وقماش النصاري، كما تنص تلك التراثية الجميلة: «يوم جا للبقعة زارها.. كَمَّل قماش النصارى». فحتى الأفراح والأتراح تستمد نصاعتها وبلاغتها وقدسيتها من النيل، فهم قوم كما لو أن شعارهم: «اجرِ يا نيل الحياة.. لولاك ما كانت حياة»، وأحياناً يخيَّل إليك أن المعلومات التي تقول إن هذا النيل ينطلق من بحيرتي (فكتوريا وتانا) هي مجرد أساطير، فهذا النيل ينبع من جنات عدن ليصب في جنات الفردوس، وما بين عدن والفردوس جنات وجنات، ف«النيلُ من نشوةِ الصبهاء سلسلُه.. وساكنو النِّيلِ سُمّارٌ ونُدمانُ»، فحتى لما يُغنى للرمال: «يا رمال حِلتنا زولاً كان بآنسك يا حليلو» فإن هذه الرمال لا تنفصل عن النيل، وأنت تمر بتلك المطبات: «مرة ينزل ومرة يطلع»، والنزول، يا رعاك الله، هو للنيل، للجروف، للنخيل، للزراعة، لصناعة الحياة والمستقبل، فلولا هذا النزول لما نهضت تلك الحضارة حول شاطئ النيل. { ولكن ربما تتساءلون، علام تنفق (الملاذات) بكل أجنحتها ومشاعرها وأشواقها، علام تنفق كرائم أشجانها و(تتوِّر نَفَس خيل قصائدها)، لماذا هذا البكاء على الأطلال والتاريخ والنيل؟ { فالقصة المؤلمة يا صاحِ، هي أن الحياة في تلك المضارب قد انقلبت رأساً على عقب؛ فلقد هجر القوم (قيم النزول للنيل والجروف والحياة)، فلقد هجروا الزراعة وضربوا الصحاري والضهاري بحثاً عن معدن الذهب، الذهب كادت عقول الأهالي أن تذهب، لا حديث هناك الآن يعلو على أحاديث (الأجهزة الXGB) والبكاسي و(خليات الذهب). أنصع الأخبار في هذه الأيام في الريف تتحدث عن أن ولد ناس فلان عثر على (خلية ذهب)، فالخلية هي التي ستحول حياتك إلى جنة، والكل يحلم بالخلية، ويأتي إليك من يخبرك أن فلاناً قد اشتري بُكسي ولوري وبيت في الخرطوم، وقصص الذهب قد أرَّقت مضاجع الشباب، الحلم بالثراء المفاجئ، فثورة الذهب تُصنع في يوم وليلة، و(هدف الذهب) وخليته تُحرز في كسر من الثانية، وربما في لحظة خلية تاريخية تتوشح بقول (ود النعيسان) في مسرحية شيخ العرب ود دكين: «يا صاحبي الفقر أنا وإنت ما اتفارقنا.. غرِّب عديل شرَّقنا». فاليوم أصبحت وهاد قبقبة على تخوم البحر الأحمر أشهر مدينة للأحلام. { وجروفنا ونخلينا ونيلنا وسواقينا، كما البطل الضخم ود حبوبة عندما شنقه الإنجليز وجعلوا جنازته معلقة على أستار السوق، لمّا أنشدت شقيقته: «أكان بالمراد واليمين مطلوق.. ما بنشنق ود أب كريق في السوق». { مخرج: نعم للذهب وألف نعم.. لا لشنق النيل.. لا لإعدام الزراعة والخضرة والجمال.