يقول الفيلسوف إفلاطون: (إن الديمقراطية تنشأ عندما يقضي البسطاء على خصومهم الأقوياء، وعند ذلك ينشأ حكم الشعب بالشعب). ويحدد أرسطو الربط الوثيق بين السعادة والفضيلة لقيام الدولة بدورها في تحقيق القدر الأعلى من السعادة للقدر الأوسع من الشعب، وهو الربط بين السعادة التي تعني اليُسر والرخاء والرفاهية، وبين الفضيلة التي تعني فاعلية الصلاح والفضل. ولأن مثل هذا الطرح لا يكون من منظور ديمقراطي كلاسيكي ولكنه يكون من واقع سياسي متجسِّد في التجربة الديمقراطية، وهذا إن تحقَّق منذ فجر الاستقلال وحتى الآن، لكان قد أكسب التجارب الحاكمة بكل أشكالها في السودان حسب درجات ديمقراطيتها أبعاداً ديناميكية جديدة تجعلها تتزود بأسباب الديمومة والاستمرار والنماء. هذا الحديث لا نحتاج إليه بكل الطموح والأشواق، لكن ما هو مطلوب هو الحد الأدنى والقدر المعقول من اللياقة السياسية، ومن هنا يبرز الفلك القومي الذي نريد من كل الأحزاب السودانية بلا استثناء أن تدور فيه وتتبع ذلك بالضرورة القصوى والمُلحّة المُثل الديمقراطية العليا التي يجب أن تلتزم بها هذه الأحزاب سواء أكانت حاكمة أو معارضة. حكومات كثيرة وثورات وشعارات استهلكناها منذ فجر الاستقلال وحتى الآن، وأحاديث وأقوال برّاقة ودعاوى للتطوُّر الفكري والمنهجي في إطار ترقية العمل السياسي الحزبي فيما لم نُفارق بعد مفهوم أحزاب حاكمة ومعارضة وهجوم هنا وهناك، بالرغم من وداعنا لجزء عزيز من بلادنا هو الجنوب. فماذا تبقى لنا غير التصافح بديلاً للتشاحن. مساحة من الحوار استهدفنا بها عدداً من القادة السياسيين في البلاد حول الشأن السياسي والمشهد الآن. البروفيسور إبراهيم غندور أمين الأمانة السياسية في المؤتمر الوطني ورئيس اتحاد العمال أجرينا معه حواراً استعرضنا فيه الواقع السياسي الراهن يُنشر عبر حلقات حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { نبدأ بآخر حدث أهاج حفيظة ومشاعر المؤتمر الوطني وهنا أقصد التصريحات النارية الأخيرة للأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم حول البترول والاتهامات الأخرى بزعزعة الأمن. فهل في المرحلة القادمة ستبتلعون باقان أم هو الذي سيبتلعكم بعد أن صار كالغصّة في الحلق؟ - لا هذا ولا ذاك. باقان أموم سيبتلعه شعب الجنوب الذي يعتبره كثير منهم خميرة عكننة عندما كان السودان واحداً وربما يتم التهديد الأمني للشمال والجنوب عندما يكتمل انفصال الجنوب، وبالتالي باقان يحاول في كثير من الأحيان أن يُصدر بعض خيبة الأمل التي تعتري الأداء الحزبي لحركته للشمال واتهام المؤتمر الوطني بأباطيل لا وجود لها على أرض الواقع، واتهاماته الأخيرة هي أكبر دليل على ذلك ولم تصمد أمام تشريح المراقبين والوسطاء والقوى العالمية المختلفة التي ظلت تتابع اتفاقية السلام، ونتيجتها كانت أن يلتقي الرئيس البشير ورئيس حكومة الجنوب وهو النائب الأول وأن تطوى الصفحات سريعاً لأن ما قيل من اتهامات هي أباطيل لا أساس لها من الصحة. { من الملاحظ أن تصريحاته هذه ومواقفه رمت بظلالها على الاجتماع الذي كان مزمعاً انعقاده مؤخراً، فهل سعى أيضاً باقان لتعطيل اجتماع مؤسسة الرئاسة قبل الأخير؟ - مؤسسة الرئاسة لم تتعطل ولكنه عطّل الحوار الذي كان المستفيد منه الأول الجنوب الذي يتطلع إلى إعلان دولته في التاسع من يوليو، لكن مؤسسة الرئاسة التي اجتمعت على أنه لا بد من تنفيذ الاتفاقات التي وُقِّعت لا سيما بخصوص أبيي وما يسمى باتفاق كادُقلي وعدم تصعيد الأمر في أبيي، أيضاً الجلوس للحوار، واعتبار الحوار هو الطريق الأول والأخير من أجل بناء الثقة، وبالتالي أعتقد أن كل أحابيل الساحر الذي يريد أن يودي بأهل السودان جميعاً إلى أتون الحرب مرة أخرى قد فشلت وأُبطلت بواسطة إرادة الله سبحانه وتعالى وإرادة أهل السودان. { كيف تقرأ العلاقة في فترة الثلاثة أشهر القادمة بين الشريكين؟ - هذه تعتمد على عقلانية قيادة الحركة الشعبية. المؤتمر الوطني والحكومة الاتحادية منذ البداية قرروا العلاقة السوية والمتينة في حدها الأقصى من الشراكة الممكنة بين دولتين مستقلتين بين الشمال والجنوب بما فيها العلاقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بكل محاورها التفصيلية، وجعل الحدود وفقاً لما يحدده البشر وليس الدول أو الاتفاقيات الدولية بين الدول المجاورة، حدوداً لينة فيها من الحراك الشعبي ما يجعل دوام العلاقات المشتركة بين الشعبين تستمر من أجل المصلحة المشتركة، لكن هناك من يحاول وفي سبيل المحافظة على ما يحقق من مكتسبات شخصية أو مكتسبات لمجموعات قبيلة ومن هو على استعداد للتضحية بكل ما هو إستراتيجي من أجل تحقيق هذه المكاسب. { بفعل التطورات في العالم العربي، هل انشغل المحيط الدولي عن قضايا السودان؟ المحيط الدولي لم ينشغل عن السودان إذ أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا الغربية التي تتابع الشأن السوداني تعلم أن الاستقرار في منطقة السودان، الشمالي مهم وضروري للاستقرار في منطقة إفريقيا الشرقية والتي تُمثِّل المِعبر الأول للنفط، وهي في منطقة تعُجُّ بالكثير من القضايا الملتهبة، كما في الصومال وغيرها من الجوار في إفريقيا الشرقية، وكذلك يمتد السودان إلى إفريقيا الغربية التي تُعتبر هي مناطق النفط الجديد في إفريقيا والعالم، وأيضاً تصل إلى شواطئ المحيط الأطلنطي التي تُعتبر المنطقة البديلة لترحيل النفط في المستقبل، وكذلك هذه المنطقة الآن بها نشاط واسع لتنظيم القاعدة وبها حركات مسلحة تتحرك ضد دولها في صحراء شاسعة لا تستطيع أن تحرسها أقوى المؤسسات والدول، وبالتالي وجود السودان كمنطقة تنتشر شرقاً وغرباً في استقرار تام، وكذلك تربط ما بين إفريقيا جنوب الصحراء بالوسط الإفريقي الذي هو أيضاً بؤرة نشاط لكثير من الحركات المسلحة وتاريخ ما حدث في البحيرات والكنغو وإفريقيا الوسطى ليس تاريخاً بعيداً، يجعل من استقرار السودان هماً لهذه الدول من أجل مصالحها وليس من أجل عيون أهل السودان. ويبقى الدور علينا نحن في أن نحافظ على سيادتنا الوطنية ووحدتنا ووحدة نسيجنا الاجتماعي، وأيضاً نحفظ أمن بلادنا ونمنع هذه البلاد ذات الأهمية الإستراتيجية والوضع الاقتصادي المتميَّز وأن نعمل على حمايتها من الاختراق. { آخر الأخبار تقول إن الحوار السياسي قد بدأ أيضاً مع حزب المؤتمر الشعبي فما صحة ذلك؟ لم أسمع بذلك، وهذا ليس حوار المؤتمر الوطني وإنما هو بين مستشارية الأمن التي تتبع لرئاسة الجمهورية وأحزاب كثيرة وقوى أخرى، وإن كنا نتمنى عودة الحوار بين المؤتمر الوطني والشعبي. فالمؤتمر الوطني يتحاور مع كل القوى السياسية وليس له خط أحمر في الحوار، والحوار دائماً هو أفضل السبل للوصول إلى اتفاق وحتى إذا كان هناك اختلافاً، فالحوار هو الوسيلة للوصول إلى الاتفاق. { من «تهتدون» إلى «تفلحون»، ما هي فلسفة الصادق المهدي في الحوار معكم الذي تارة ينطلق وتارة يتوقف فكيف هو الحال الآن؟ الحوار مستمر ولم يتوقف مع حزب الأمة، وهو رغبة مشتركة والسيد الصادق المهدي هو رجل سياسي وصاحب خبرة ومفكر ويعلم أن الحوار هو الطريق الوحيد للوصول إلى اتفاق، وبالتالي ظلت أبواب الحوار بيننا وبين حزب الأمة القومي ممتدة على الدوام، وحتى عندما نلتقي وعندما نختلف يكون ذلك في احترام تام بين الطرفين. { الحكومة ذات القاعدة العريضة هل ملامحها بدأت تتضح أم مازالت الملامح بعيدة؟ - مازال الحوار يجري حولها وإن أبدت كثير من القوى السياسية رغبتها في الدخول فيها، غير أن تشكيلها النهائي لن يظهر إلا عند قرب موعد إعلانها والذي لن يكون قبل التاسع من يوليو موعد إعلان الدولة الجديدة، فهناك رغبة كبيرة من الكثير من القوى السياسية للمشاركة فيها، وملامحها ستتضح عند معرفة من سيشارك من عدمه. { كل المعارضين مناداتهم ظلت جميعها في إتجاه أن يكون ناتج الحوار هو ناتج قومي حتى وإن بدا ثنائياً هنا وهناك فهل تستصحبون هذه المناداة معكم في هذا الحراك؟ وما المشكلة في أن يكون ناتج الحوار قومياً؟ - الحوار الثنائي هو الطريق إلى الاتفاق القومي، إذ أن القضايا القومية تبدأ دائماً باتفاق بين الطرفين ثم تخرج إلى الأطراف الأخرى، والحوار بين المجموعات المتعددة لن يكون حواراً تفصيلياً دقيقاً ولكن يمكن أن يتم في مجالات تكون فيها النظرة للأُطر العامة وليس للقضايا التفصيلية، وما يجري من حوار ثنائي يكون دائماً حول قضايا تفصيلية لكن الأطر تخرج بعد ذلك. فقضية مثل قضية الدستور لابد من الحوار حولها تفصيلياً مع مجموعات متعددة ثم بعد ذلك يمكن أن يخرج إلى إطار قومي من خلال لجنة قومية أو خلافه لتكون اتفاقاً قومياً يُطرح على الناس. { المعارضة في بعض مكوِّناتها لم تنفك من توعُّدها لكم بأنها لابد من أن تقتلعكم فماذا أنتم فاعلون؟ المولى عزّ وجلّ هو الذي يُعطي وهو الذي يقتلع، وبمعايير الدنيا والسياسة لا أعتقد أن ذلك مُتاح ولكن إرادة الله هي التي تُحدِّد ذلك. { بروفيسور غندور.. بحكم وجودك القيادي داخل المؤتمر الوطني وبحكم الحراك السياسي الذي يشهده الحزب في كل أجهزته كأي حزب آخر في الساحة المحلية أو الإقليمية، هل تعتقد أن الديمقراطية داخل المؤتمر الوطني كحزب كفيلة بأن تُرغِّب الآخرين في الانضمام إليه؟ المؤتمر الوطني هو أكثر الأحزاب التي تُمارس فيها الديمقراطية والرأي والرأي الآخر، لأنه حزب مؤسسي ومؤسساته في كل المستويات، وأنا هنا أعبِّر عن المؤتمر الوطني الجسم الاتحادي والذي تجتمع أجهزته بصورة راتبة بدءاً من الأمانات وصولاً إلى القطاعات ثم المكتب القيادي ثم هيئة الشورى والمؤتمر العام، ودائماً ما تنبع فيه المبادرات على المستويات الأدنى ثم تذهب إلى المستويات الأعلى، وعندما تُجاز تصبح سياسات وقرارات واجبة التنفيذ وتُتابع كل ثلاثة أشهر من خلال تقارير، ولكن هذا لا يمنع أنه دائماً ما تجد من لا يرضى عن الممارسة في داخل الحزب، ولكن نحن بمعايير الأحزاب إقليمياً ودولياً نعتبر أنفسنا الأكثر ممارسة للديمقراطية في داخل الحزب. { هل مازلتم عند الالتزام ذلك بأن الرئيس لن يترشح لدورة رئاسية قادمة؟ لم يكن هنالك قرار بذلك، فالرئيس هو الذي بادر وذكر هذا ولكن قرار ترشُّح الرئيس أو أي شخص للرئاسة من عدمه هو قرار أجهزة الحزب، وأيضاً يعود إلى الشخص نفسه، إذ أن الحزب لن يُجبر شخصاً على ذلك، لكن مؤسسات الحزب والمؤتمر العام على وجه الخصوص الذي يتكوَّن من ستة آلاف عضو هو صاحب القرار في من يترشح عندما يأتي الوقت لإعلان الترشيح. فالمؤتمر العام سيقول قوله، وحينها الرئيس يمكن له كرئيس للحزب وأيضاً كفرد يمكن أن يقول رأيه ولكن رأي الجماعة هو الذي سيسود.