والطاولة تشترك في غايات اللعب والطعام والعمليات والمفاوضات.. الخ، والطاولة أيضاً تبيعنا لريح المفاوضات وتحتقن أرواحنا كلما عرضت المزادات سعراً أقل أو أفضل..! وما يحدث الآن من تفاوض و(مخارجات) - إذا صحت التسمية - يجعلنا لا ندري كيف نوافق على الأسعار المعروضة، ومن هم أحق المفاوضين بحسن صحبتنا لقادم الأيام. والأيام هذه تبدو محتقنة بالأغبرة والبرودة والصيف زائر النهار الخفيف، وكذلك بالأحداث المتواترة منذ أكل العيش وحتى أكل كتف الوطن، فهناك حيث تحتشد الحركات المتمردة - إذا صحت التسمية أيضاً - لا ينجو أهلنا في دارفور من الحزن وانفلات الغضب وانعدام أساسيات الحياة، وأولها المياه الصالحة للشرب، ناهيك عن الترف في الصحة والتعليم. وقد علمنا، طوال هذه المدة التي لم نر فيها سوى أخبار الحرب في دارفور، أن الأمر يقتصر تماماًَ على ظرفية الزمان والمكان والإنسان، فمن تستدعيه النعرة القبلية لجلب حق منزوع كما يراه من آخر، يستدعي ذاك الآخر ذات النعرة، لكن بالاتجاه المقابل، فتشتبك الخيوط وتنتهي نهايات غير سعيدة حتماً. وهنا لا تبقي الحرب ولا تذر، من الضعاف الذين لا يملكون (حق المواصلات) لتذكرة الخروج من الإقليم والبلاد، وضيق العباد! إن عبد الحرب، الذي لا يستطيع غيرها حياةً، لن تنتهي خياراته في تفاوض على طاولة مربعة أو مستطيلة أو مثلثة على أوتار حنينه إلى أهله ومناصب تعيده إلى رشده الذي يظنه، فهو سينسج قمصان جديدة، ويقدّها من دبر، ومن قُبُل، كي يخبر العالم كيف أن الاتفاقية قد أغوته تفاصيلها، وغلقت أمامه أبواب المتع الأخرى، والخروج إلى ما يريد، ولن يشهد له من أهله إلا من يوافق على الغواية من أساسها بحلم جديد يعيده إلى زي مبرقع ولفافة محكمة على حاسة الشم والكلام والسمع، فيشاهد بأم رأسه كيف ينتهي سلام دارفور. ودارفور دار أهلي التي لم يحسن واحد فينا الكتابة عنها إلا من خلال (موتيفات) ثابتة في الدواية واللوح والبارتل والعمر وأنواع العصيدة، انتهت تماماً منذ أوان النهب المسلح، الذي كان بصدق يشارك فيه الكثير من شبابنا بدعوى واحدة هي الفراسة والرجالة والقوة الباطشة، وحتى النهب المصلح الذي دخل من بوابات المعسكرات والكلمات والولايات ليأخذ ما تبقى من ريق عسلها الأصلي، فتصبح، كمكان، مسيخة لا طعم لها، وكزمان، باهتة لا ملامح فيها. وملامح من دفنوا رأس وطنهم في الرمال تبدو معتمة إعلامياً، فبغض النظر عن اتفاقنا أو ضده معهم في ما ينفقونه من سهر ولهو وحديث وحجبات.. الخ، لجعل المكان إما لهم أو فليضر غيرهم. كما حينما شرع الجنوب بكامل إحداثياته السياسية والاقتصادية في بلع لقمة الانفصال، ساعدنا العامل على تحمل التجشؤ كريه الرائحة بصرفنا تجاه تفاصيل أخرى كملمح زوجة السيد (سلفاكير) وملمح السيدة الجنوبية المسنّة التي اختارت رغم الدستور أن تأتي وتشارك في الاستفتاء - طبق محشي لا يهم ما بداخله الكلام على الطعم النهائي! - وذلك كي تتحسن قليلاً ملامح من دفنوا في ليل انفصال الجنوب عن باقي البلاد. كما هذا نحتاج أن نتوالف قليلاً مع الوجوه الموجودة خارجاً بكامل ملامحها غير المرغوبة إعلامياً الآن، فربما تنجح الطاولة في قلب الموازين أو إعادة تدويرها، فنجدنا ذات صباح يتنفس في وجهنا السيد (عبد الواحد) كوزير لمرفق خدمي مهم، أو يبتسم في غضبنا (د. خليل - رغم صرامته) كمستشار محتمل ضمن سعة خزان المستشارين! لن تستشيرنا الحكومة كأهل بلد أو تأخذ مشورتنا في ما ينبغي أن يكون عليه وضع الطاولات المتراصة على (هول) النقاشات المفتوح على فضاء الحوارات والفضائيات، لكنها بالكاد ستشتري حواس الذوق والسمع حتى البصر بلفنا بعمامة (بلدنا نعلي شانا)، لكن كيف سنسمع دارفور تنادي ونحن محجوزون تحت طاولة بلا أرجل؟!