في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي وقبل الإنقاذ بقليل كان الأخ سيد حاج حمد حاكماً مكلفاً للإقليم الشمالي، الذي يضم ولايتي نهر النيل والشمالية، بوضعهما الجغرافي الحالي، وهو من أبناء مضاربنا ومضارب صاحب الملاذات الآمنة. وفي تلك الفترة كانت الحركة الشعبية تتمدد وتفرض سيطرتها على معظم الجنوب، وقامت بإسقاط طائرة مدنية فوق سماء ملكال، ومن بين أفراد طاقمها؛ الشهيد نصر الدين علي الخليفة من أبناء القرية، وفي ذلك الصباح الحزين جاءني بمكتبي الأخ سيد حاج حمد وهو يرتدي الجلباب والعمامة ويقود عربته الخاصة وتوجهنا معاً إلى القرية لنبلغ أسرته بالنبأ الفاجعة، وفي المساء ونحن نستعد للعودة وصل إلى مكان العزاء وفد من الخطوط الجوية السودانية مستقلاً عربة (مجروس) تابعة للقوات المسلحة، ويضم الوفد الإدارة العليا والعاملين بالشركة من الجنسين، وفي طريق عودتنا إلى عطبرة، والوفد يسير خلفنا، تعطل (المجروس)، فإذا بالأخ سيد حاج حمد يخلع جلبابه ويستلقي تحت العربة المتعطلة محاولاً إصلاح العطب، وعندها سألني رئيس الوفد عن مهنة هذا الشخص الشهم، فقلت له إنه حاكم الإقليم الشمالي ولم يصدق ذلك وقال لي: إذن أين الحرس وأين المراسم والسائق؟ فقلت له: إنه في مهمة أسرية خاصة ويرفض أن يستغل إمكانيات الدولة وهو لا يحتاج لحراسة وسط أهله وتعجب من ذلك وأخذ يردد إنكم يا أبناء الشمال من أهل الجنة. في مطلع عام 2008م عندما جاء البروفيسور أحمد مجذوب أحمد والياً لنهر النيل دعا مجلس الوزراء لاجتماع عادي وكان من بين أعضائه المرحوم إبراهيم الطاهر بابكر؛ معتمد الدامر في ذلك الوقت، وأعلن الأخ الوالي في نهاية الجلسة عن حل مجلس الوزراء ليتسنى له تكوين حكومة جديدة، وفي ذات اللحظة أمر الأخ إبراهيم الطاهر سائقه بأن يقوم بتسليم العربة الحكومية ويأتي له (بركشة) يصل بها من الدامر إلى منزله بالعكد! هذا هو إبراهيم الذي فقدناه الأسبوع الماضي لحظة وصوله إلى أرض الوطن قادماً من رحلة استشفاء بالخارج، وشق نعيه على زملائه وتلاميذه وأهله في كل ولاية نهر النيل لأنه ظل تقياً وزاهداً، معرضاً عن زخرف الحياة ونعيمها، مكرساً كل وقته وجهده حماية للعقيدة ورفعة للوطن، وتولى أرفع المواقع في الولاية؛ أميناً للمؤتمر الوطني ثم رائداً لمجلس الولاية التشريعي ثم محافظاً لبربر ومعتمداً للدامر، وكان أحد قادة متحركات الدفاع الشعبي وهي تجوب أحراش الجنوب وتفرض السلام وتحقق الأمن والأمان في ربوع هذا الوطن القارة، ولم تبطره المواقف والمواقع، وظل منذ أن عرفته محاسباً بمؤسسة الشمالية الزراعية، بسيطاً ومتواضعاً في مظهره وتعامله مع الآخرين، محتفظاً بعلاقات متميزة مع كل ألوان الطيف السياسي ومحبوباً بين أهله في العكد والدامر الذين أولوه الثقة ليكون ممثلاً لدائرتهم في المجلس التشريعي خلال الانتخابات الأخيرة. وقد حدثني الدكتور العالم عثمان السيد أن الفقيد كان يعد رسالة للدكتوراه حول أثر الحزب الشيوعي في تكوين الحركة النقابية السودانية، متجرداً من كل انتماء وهو ابن الحركة الإسلامية ومن القيادات التي دفعت بها الإنقاذ إلى المواقع السيادية التي تشرفت بهم وأصبحوا القدوة الحسنة لمن يأتي بعدهم. ما أحوجنا لمثل هذين النموذجين؛ سيد حاج حمد ابن مبيريكة، متعه الله بالصحة والعافية، وقد التقيته قبل أيام قليلة في مناسبة عزاء بالقرية وهو لا يزال في بساطته وتواضعه ويحمل حباً وتقديراً لأهله في ولاية نهر النيل وهو أحد مراجعنا القليلة في علم الإدارة التي أهملناها ولم نستفد منها الفائدة المرجوة، رغم حاجتنا في مثل هذه الظروف لأصحاب التأهيل والخبرة من أمثال سيد حاج حمد. أما فقيدنا إبراهيم الطاهر بابكر فهو كتاب مفتوح تتقاصر دونه كلماتنا، ولن نتمكن مهما أوتينا من ناصية البلاغة والتعبير، من أن نوفيه حقه، ونقول إن رحيله أصابنا بالدوار وترك فينا فراغاً يصعب تعويضه ولكنها إرادة المولى - عز وجل - ونسأله صادقين ونرفع الأكف ضارعين أن يتقبله القبول الحسن ويجزل له العطاء، بقدر ما قدم لهذا الوطن من تضحيات، وأن يجعل البركة في أبنائه؛ «محمد» وإخوانه وأشقائه وأرملتيه «ثريا رمزي»، و«رجاء حسن خليفة»، وكل أهله وعشيرته في العكد ودامر جده المجذوب، والعزاء لنهر النيل قاطبة في محلياتها السبع وفي الأرياف والحضر، فقد فقدت بفقده علماً من أعلامها، ورمزاً من رموزها، له الرحمة والمغفرة. جمال مكاوي