اقتربت عقارب ساعة السياسة السودانية من 9 يوليو؛ موعد ولادة «الجمهورية الثانية» بلا جنوب. منذ فجر الاستقلال وحتى الآن طوينا العديد من الصفحات والمحطات السياسية، من هنا وحتى التاسع من يوليو تكون قد مرت على الأقل ثلاث ذكريات لثورات هي 6 أبريل 1985م (الانتفاضة)، و 25 مايو (جعفر نميري)، و 30 يونيو (الإنقاذ). تمر كل هذه الذكريات والتي هي أحدث حِقب حكمت السودان وفي الواقع جملة معطيات سالبة وموجبة. وقد قدمنا السالب هنا على الموجب لأن الأنظمة والثورات والحكومات لا تضع في مقدمة أهدافها عملاً سالباً، لكن واقع الممارسة ربما ينتج ذلك. ومن هنا كان تقديم السالب تعميماً على الموجب.. من هنا يكتسب ضيفنا الذي نُجري معه هذا الحوار أهمية فلقد ظل على مدار سنوات الحكم الوطني التي أعقبت الاستقلال مراقباً للموقف ثم مشاركاً مشاركة جزئية، خاصة في فترة عهد مايو (بعد المصالحة) ثم مشاركاً مشاركة كاملة في حكومة الوفاق الوطني إبّان فترة الديمقراطية الثالثة وفي فترة حكم الإنقاذ وما زال، فكان من المدافعين عن خطاب الإنقاذ السياسي المعبِّر عن هويته الإسلامية خلال ما عرف بمبدأ (الحاكمية لله) وما تبع ذلك من تدابير. لكن الرجل والحق يُقال كان ولا يزال من المنادين بشدة بدولة الحكم الراشد، كان ذلك قبل انقسام الإسلاميين أو بعده فكان لسان حاله ثابتاً... إنه القيادي الإسلامي الأستاذ أحمد عبدالرحمن؛ الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية العالمية.. تناولنا معه العديد من القضايا في هذه المساحة من الحوار الذي ننشره على حلقات، حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { ظلال ثورة ال (فيس بوك) التي أدت إلى تغيير في المنطقة، كيف للأنظمة الأخرى التي لم يطلها شيء أن تدرأ هذه الموجة عن نفسها؟ - كل الأنظمة في المنطقة، بما بما فيها نحن، ليست في مأمن. ولكن يمكننا أن نستفيد ونعتبر بما تم، ونتساءل هل نحن بعيدون عن الفساد؟ وهل هناك أي مظاهر له؟ لأنه إذا استشرى واستفحل سيصبح مؤسسياً، وبالتالي اقتلاعه سيكون صعباً، وهذا يقتضي قبل الدخول في آليات جديدة تفعيل الآليات الموجودة الآن ونجعلها تباشر عملها، بدءاً من النائب العام إلى القضاء. والصحافة يقع عليها دور كبير في ذلك. { هل معنى قولك هذا أنه لا جدوى من تكوين مفوضية جديدة هنا؟ - حقيقة من ناحية سياسية هي متوقعة طالما أن الناس قرروا مواجهة الفساد، وهذه الآلية الجديدة حتى تُستكمل وتُفعّل لا بد من تشغيل آليات أخرى، ولا تضارب هنا، لأن كلٌ يكمل الآخر، ففي القوانين هناك سلطات كبيرة عند وزير العدل والنائب العام والحسبة والمظالم والصحافة. { ماذا عن الدستور الذي طالب الكثيرون بأن يكون إسلامياً؟ - الدستور أصلاً هو إسلامي، والرئيس مؤخراً أكد على ما هو مؤكد حتى يطمئن بعض الدوائر، ونحن في السودان قطعنا شوطاً كبيراً في ذلك. { التأكيد على ال (8) سنوات كحدٍ أقصى لأي دورة حكم لرئيس قادم، كيف تراها؟ - أنا من الذين يؤمنون بأن هذه الفترة ال (8) سنوات هي كافية جداً، وأعتقد أن المجتمع فيه كثير من القيادات التي يمكن أن تتقدم، ولكن في بعض المراحل الخاصة بالنمو والنهوض السياسي تتعلق الجماهير ببعض الشخصيات، ولهم حق في هذا التعلُّق طالما شعروا بأن هذه القيادات استطاعت بأن تُرسي دعائم القدوة، والآن بالنسبة للرئيس عمر البشير أقول إن هناك قطاعات كثيرة وكبيرة تعلّقت به في مرحلة من المراحل واستطاع أن يقود، وله صفات حميدة، وله خُلق جعله قريباً من الناس، ولكن رغم ذلك لابد من أن يكون الدستور محدداً بمدة زمنية للاضطلاع بمهام الرئاسة. فالدستور لا يُفصَّل على البشير بل على المجتمع، وهذا هو النظام المعمول به في العالم كله. { في ما يتعلق بحوار الصادق المهدي مع المؤتمر الوطني، ما هو مستقبل هذا الحوار وفي البال التجارب التاريخية بين الطرفين؟ - حقيقة لقد عرفنا الصادق المهدي لسنوات طويلة وعملنا معه في الحكم والمعارضة، وأذكر أنني عندما كنت وزيراً للداخلية في فترة حكم جعفر نميري ومايو سألني في يوم من الأيام الرئيس السابق محمد حسني مبارك عندما كنت في زيارة للقاهرة عن سياسي سوداني، وهو الصادق المهدي، أرسل له رسالة ينتقد فيها الوضع في اتفاقية كامب ديفيد، فقال: من هو الصادق المهدي هذا الذي كتب لي جواباً وأنا لا أعرفه؟ وأذكر أن مبارك طلب مني إبلاغ «نميري» بأنه لن يتجاوب مع هذا الخطاب، وكان ردي لمبارك أنني أعرف الصادق المهدي أكثر من نميري ولكن سأبلغ نميري. وقلت له أيضاً ما أريد أن تعرفه أن الصادق المهدي هو شخصية لها وزن كبير في السودان، سواء أكان اجتماعياً أم سياسياً، وله عطاء في مجال الفكر والسياسة، وما نأخذه عليه أنه غير ثابت في مواقفه فهو كثير التقلُّب. وحقيقة لقد التقيت بالصادق المهدي خلال الأيام القليلة الماضية لعدة مرات، وعندما ألتقيه نتناقش دائماً في قضايا حية، ولمست منه تفهُّماً وقراءة للساحة أكثر من عدد كبير من القياديين، ويكفي أنه يُردد دائماً أنه ليس مع الجماعة الذين يريدون (فش غبينتهم)، وبالتالي يريدون إسقاط النظام دون أن يفكروا ما هي عواقب إسقاط النظام! فكل التصريحات التي أطلقها السيد الصادق المهدي يجب أن تُحمل محمل التقدير من حيث النوايا الحسنة، وأنا حقيقة أتوقع من هذه الحكومة أن تولي هذا الأمر اهتماماً كبيراً وتحاول أن تستمع إلى غيرها. { هل الصادق المهدي يستطيع أن ينسى أن أول شخصية تقدمت له في الحوار معه باسم الإنقاذ هو د. حسن الترابي في ما يُعرف بلقاء جنيف الشهير، وبالتالي يظل هذا اللقاء هو فاتحة العلاقة الحوارية بينه وبين الإسلاميين في مختلف تحوُّلاتهم السياسية، هل تتفق هنا مع هذا السؤال؟ - حقيقة نحن أيضاً لا ننسى ذلك لأننا (شاعرين) حقيقة بضرورة أن يلتقي الجميع، ولكن ما يهمني الآن سواء الصادق المهدي وجماعته أم الترابي وجماعته هو الاستجابة للمعطيات الآن، والذي يستوجب أن الكل يستمع للآخر، وأيضاً الكل مطلوب منه أن يُعطي رؤية جديدة في مرحلة جديدة للسودان، وهي الجمهورية الثانية، وأعتقد أن هذا النداء يجب أن يُطلقه الرئيس عمر البشير بمصداقية وأمانة، ذلك في أننا مقبلون على مرحلة جديدة ليس فيها إقصاء لأحد وتستدعي المشاركة من الكل. ولذلك أعتقد أن الدعوة لدستور جديد هي مطلب الساعة، وهو دستور تضعه كل القوى الوطنية بأي شكل من الأشكال، فلابد من أن تتوفر الفرص للقوى السياسية جميعها للمشاركة في هذه المرحلة لوضع وثيقة تاريخية «الدستور». { مازال التجمع المعارض يتوعَّد الحكومة والنظام بالإسقاط فما تعليقك على ذلك؟ - نحن نعتقد أن التجمع هو ظاهرة تاريخية وعشنا معه مدة طويلة جداً، ومشكلة التجمع أن المجموعة الحاكمة تعرف أهل التجمع من لحن القول، لذلك فنحن لا نُقلِّل منهم وندعوهم للحوار المسؤول لأن هذه البلاد هي بلادنا جميعاً، ونحن نعلم أن صوتهم عالٍ دائماً ولهم المقدرة في خلق «من الحبة قبة» ولكن معرفتنا بهم تتطلَّب منا أن نتجاوب معهم ونفتح الطريق وألا نسعى لمضايقتهم، لأنه لم يتبق لهم شيء، فاليسار بحكم تاريخه في السودان من المفترض أن يحكم أكثر من عشرين مرة، ولكن نتيجة للتخبُّط وعدم الرؤية والتشتُّت لم يسر للأمام. اليسار معارضة لطيفة، كما تعودناها في الماضي، ونحن كحركة إسلامية لنا معرفة في التعامل معهم، ومشكلة هذه البلاد الآن تكمن في أن المعارضة يجب ألا تكون على المنوال الذي تسير عليه الآن، بحيث نتمنى ألا تجنح كثيراً نحو النزاعات الجهوية والعنصرية أو المُسلّحة أو المرتبطة بالخارج. { ما هو موقفكم من الترابي في المرحلة القادمة؟ - أعتقد أننا على خلاف مع الترابي سياسياً وحول السلطة ومن حقه أن (يكابس) في السلطة بحكم أنه قدم الكثير لها، ولكنه انتهى بالموقف الشاذ، بحيث لم يجد هذا الموقف أي قبول في معظم أوساطنا، وبالتالي فمن حقه أن يبحث له عن أوساط جديدة ويبشِّر بها في برنامجه، فالترابي منذ أن عرفناه كان شخصاً موضوعياً، ولكننا الآن لا نتجاوب معه، ويؤسفنا جداً أن الموضوع عنده الآن هو صراع سلطة فقط، وأنا شخصياً أعتقد أن السلطة عليها أن تُراعي كِبَر سنه وجهده وعطاءه. { ألا تشعرون الآن بأنكم محرجون كحركة إسلامية سودانية من الحركة الإسلامية العالمية، من هذا الانشقاق، ومن الصعوبة أنكم تتوحدون؟ - ما حدث لنا هو ابتلاء، وفي كل المؤتمرات العالمية التي نلتقي فيها بالمفكرين لم نشعر بحرج، لأننا أعملنا كل الجهد في سبيل المحاولة لأن نستوعب بعضنا وأن نلتزم بالشورى والمؤسسية، ولكن إذا كان الطرف الآخر لا يحترم المؤسسية ولا الشورى فلا طريق إذن إلا أن يسير كلٌ في طريقه. فنحن اخترنا الالتزام بالجماعة والمؤسسية، وهذا هو الذي حدث، والسلطة قطعاً لها مفاهيمها ومنطلقاتها في حفظ الأمن والاستقرار، ولكن مع كل ذلك أقول إن الترابي في هذه المرحلة من السن ونتيجة للعطاء الذي قدمه للحركة والوطن ينبغي أخذ كل ذلك في الاعتبار.