رغم أنني كنت قد أبديت ملاحظات خاصة على الطريقة التي تتناول بها قناة الجزيرة العربية حالتنا السودانية التي تعكس نوعاً من عدم الفهم لكثير من الأحداث السودانية، وقد أشرت في مقال سابق أن الطريقة الخاطئة التي تتناول بها قناة الجزيرة كثيراً من الأحداث السودانية يرجع بصورة كبيرة إلى ضعف إعلامنا المحلي في عكس وشرح الصورة الحقيقية لقضايا السودان، الأمر الذي جعل كثيراً من القنوات الفضائية العالمية تستقي معلوماتها من مصادر غير سودانية، كثيراً ما تكون لها أجندة معادية للسودان، وهذه المصادر تتأثر بها بعض القنوات الفضائية المحترمة، وعلى رأسها قناة الجزيرة، كما يرجع جزء من ذلك التناول الخاطئ لقضايانا السودانية بواسطة قناة الجزيرة إلى ضعف أو تحامل بعض محرريها القابعين في السودان، ولكن رغم هذا تعتبر قناة الجزيرة واحدة من أكبر إشراقات العالم العربي والإسلامي التي استطاعت خلال سنوات قليلة أن تقهر وتسحق كل قنوات الإعلام الغربي الكاذبة والمتحاملة دائماً ضد العالم العربي والإسلامي وتمكنت بالتالي قناة الجزيرة من الجلوس على عرش الإعلام العالمي من دون أي منازع، للدرجة التي جعلت أمريكا والغرب يعترفون بفشلهم الذريع في التصدي أو مجاراة مشروع الجزيرة الإعلامي رغم الأموال المليارية التي تم صرفها لتأسيس قنوات «الضرار العربية». وهذا الزخم والنجاح الباهر الذي اكتسبته قناة الجزيرة جعل كثيراً من نخبنا العربية من أصحاب الهزيمة النفسية الذي تأصلت في نفوسهم «عقدة الخواجة» والذين لم تهيأ نفوسهم لأي نجاح عربي وملئت جوانحهم «بعقد النقص»، جعلهم النجاح الإعلامي لقناة الجزيرة يبحثون متشككين عن الجهة التي تقف خلف هذه القناة، ولذلك ذهبوا مباشرة يبحثون داخل معاقل اليهود وداخل أزقة الصهيونية حتى يجدوا ذلك الخيط الذي يربط بين قناة الجزيرة وبين اليهود، ولذلك نجد كثيراً من المثقفين العرب وعدداً من الإعلاميين والسياسيين يتهمون قناة الجزيرة بالارتباط باليهود والصهيونية لأنهم لم يتخيلوا أبداً أن يكون هنالك «نجاح ما» وراءه قوى أو نخب عربية خالصة، وبنفس القدر ووفق ذات الهواجس في المعسكر الآخر المعادي للعالم العربي نجد أن اليهود والغرب الاستعماري يتوجسون دائماً ويبحثون عن الجهة الخطيرة التي تقف خلف قناة الجزيرة أو تدير مشروعها الإعلامي وذهبوا مباشرة إلى معاقل «الإرهاب وتنظيم القاعدة» ليبحثوا عن الخيط الذي يمكن أن يكون رابطاً يربط بينها وبين قناة الجزيرة، ولكن رغم كل هذه الهواجس من المعسكرين تبقى الحقيقة ناصعة أن قناة الجزيرة هي تجربة عربية خالصة وناجحة وذات نفس عربي إسلامي خالص، ووفق هذا النجاح الإعلامي الباهر يمكن قراءة التأثير الهائل الذي أحدثته قناة الجزيرة، خصوصاً على قضايا وتداعيات الواقع العربي وارتباطاته بالصراع الإسرائيلي وتداعيات الغزو العسكري الاستعماري للمنطقة العربية، حيث يمكن القول بكل وضوح أن قناة الجزيرة استطاعت أن تُفشل بدرجة كبيرة كل مخططات الغزو العسكري الصهيوني والغربي على المنطقة العربية ومخططات الغزو الثقافي، بل إن وقع ضربات قناة الجزيرة كان أبلغ أثراً وأشد إيلاماً من ضربات المقاومين على القوات الأمريكية في العراق والقوات الصهيونية في جنوب لبنان وعلى قوات الطابور الخامس في المنطقة العربية، كما أن الثورات العربية التي أطاحت بنظامي الحكم في تونس ومصر تعتبر واحدة من أكبر دلالات النجاح الإعلامي لقناة الجزيرة في مواجهة إعلام التطبيع العربي، وهذه الثورات العربية التي فاجأت كل العالم شرقه وغربه وعربه وعجمه هي نتاج طبيعي «لحملة الوعي الكبرى» التي بثتها قناة الجزيرة داخل مؤثرات العقل العربي، حيث إن قناة الجزيرة، وبفضل أدائها المهني المتميز، استطاعت أن تتملك حصرياً شغاف العقول وشرايين القلوب لمعظم المشاهدين العرب ودون أدنى منازع، وعبر هذا الانجذاب الصوفي لقناة الجزيرة استطاعت القناة أن تضخ أكبر حملة وعي سياسي يشهدها العالم العربي كانت كافية جداً لتمييز الصفوف وفرز «الكيمان»، حيث أصبح المواطن العربي، وبفضل الأنوار الكاشفة التي بثتها قناة الجزيرة، أصبح أكثر قدرة وأعمق وعياً في تصنيف القيادات والمشاريع العربية، وأصبح هذا الوعي يتفاعل عبر السنين منذ انطلاق قناة الجزيرة حتى تفجر هذا الوعي مؤخراً محدثاً هذه الثورات العربية الهائلة الماثلة، لذلك يصبح من الخطأ أن يظن إنسان أن نجاح الثورات العربية كان سببه فقط هو «تغطية قناة الجزيرة» وملاحقاتها الكاشفة لتداعيات الثورة، فرغماً عن أن هذه التغطية كان لها أثر كبير في إنجاح الثورات العربية إلا أن الأثر الأكبر في إنجاح هذه الثورات العربية كان هو «حملة الوعي الكبرى» التي بثتها قناة الجزيرة داخل مفاهيم وعقول الشباب والنخب السياسية العربية، حيث أصبحت الشعوب العربية بفضل حملة الوعي التي تبنتها قناة الجزيرة، تميز بصورة واضحة وجلية بين وكلاء الاستعمار وقيادات التطبيع في العالم العربي الذين كانت رياح الإعلام الغربي الصهيوني تخفق في أعلامهم وتنفخ في أثوابهم، خدمة للمشروع الصهيوني وبين القيادات الوطنية العربية الخالصة التي كان الإعلام الصهيوني والغربي يجتهد في طمرهم والتعتيم على مشاريعهم. لذلك ووفق هذه الرؤية وحتى لا يطول انتظارهم للثورة السودانية نطلب من المعارضة السودانية أن تراجع حساباتها وتراجع شخوصها إذا كانت تريد للشعب السوداني أن يجاري الثورات العربية، لأن الشعب السوداني الذي يعتبر أكثر الشعوب العربية وعياً أصبح يميز بصورة واضحة بين «ثورة الإنقاذ» التي جندت الصهيونية العالمية كل جنودها من الإنس والجن لمحاربتها وبين المعارضة التي اكتنزت شحومها ولحومها من أموال السفارات والمنظمات الصهيونية، وعلى المعارضة السودانية أن تعلم أن تتبع أخطاء الحكومة وإخفاقاتها ما عاد سبباً مقنعاً للشعب السوداني لكي يسلم رقبته لعملاء الاستعمار وشفرات سكاكين السفارات، لأن الشعب السوداني المسلم الذي يعلم أن الذي يعمل ويجتهد في العمل لا بد له من خطأ لأن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولأن الشعب السوداني الذكي يميز جداً بين حالة السودان «رجل إفريقيا المريض» قبل الإنقاذ الذي لم تتجاوز ميزانيته العامة (600) مليون دولار التي كانت على «قلتها» تعتمد بنسبة 80% على المعونات الخارجية وبين حالة السودان اليوم الذي تجاوزت ميزانيته العامة (15) مليار دولار وتعتمد على مواردها الذاتية بنسبة (80%) التي جعلت السودان ثالث أكبر قوة صناعية في إفريقيا، لذلك يا حيارى المعارضة، إن الشعب السوداني صاحب الوعي الذاتي والمكتسب الذي زادته قناة الجزيرة وعياً على وعي لن يجرب التجارب الفاسدة والكاسدة التي أقعدت بالسودان ولن يجرب القيادات التي نشأت وترعرعت بأموال السحت الصهيوني الحرام، وعلى حيارى المعارضة أن يعلموا أن الثورات العربية التي انطلقت للإطاحة بحلفاء الاستعمار وأبواق الصهيونية في المنطقة العربية وعلى رأسهم حليفهم «حسني مبارك» الذي كان يرعى كل أنشطتهم ومؤتمراتهم عبر القاهرة وأسمرا، لن تنطلق هذه الثورات في السودان ليس لأن الإنقاذ مبرأة من العيوب، وليس لأن الشعب السوداني أقل ثورية من الشعوب العربية، ولكن لأن هذه الثورات انطلقت ضد المشروع الصهيوني وضد عملاء الاستعمار في المنطقة العربية، وأنا أسأل القارئ الكريم أن يُجيل بصره بين ثنايا الإنقاذ وبين ثنايا المعارضة ثم يرجع البصر كرتين ليرى من هم ممثلو المشروع الصهيوني، ومن هم أذناب المنظمات المشبوهة داخل ساحات السياسة السودانية؟!