{ أحياناً تحتاج إلى بعض الطرف لتكسر روتين الجلسات الإعلامية الطويلة المبوبة، جلسنا أمس الأول لما يقارب الأربع ساعات بمكتب السيد الوالي عبد الرحمن الخضر، نستمع «للقصة الأصلية» لمياه الخرطوم من أبطالها الحقيقيين، حيث جلس على صدر الطاولة السيد الوالي، ثم جلس المعتمدون على يمين الطاولة، ومدراء المياه بالمحليات جلسوا على ميسرة الطاولة، جلست «غرفة الطوارئ» خلف المعتمدين، وعلى شمال السيد الوالي اصطف الإخوة الصحفيون، طريقة هذا الاصطفاف جعلتني أجلس على شمال السيد الوالي مباشرة، «الجهة التي يفترض أن يجلس عليها نائب الوالي»، فالظروف وحدها هي التي جعلتني أجلس بين السيد الوالي ووزير المياه بالولاية، وإذا عرضت هذه الجلسة على شاشة التلفزيون أخشى أن يأتيني الكثيرون بطلباتهم، وأنا قريب و«غريب» وبعيد، فالمسافة داخل القاعة تقاس بالسنتمترات، وخارج القاعة تقاس بالهكتارات. وكانت كؤوس المياه والشاي لا تصل إلى مقاعد الإعلاميين في أقصى القاعة، وكنا وقتها نكابد تفاصيل التفاصيل عن الخطوط الفرعية في الأزقة والأحياء، فلقد تعرض اللقاء إلى محليات الخرطوم السبع «حارة حارة وزنقة زنقة»، فصحت في الحضور وقتها «يا جماعة المياه والعصاير والشايات مقطوعة من هذا الجانب.. فربما أن هناك بلف مقفول»، فذهبت القاعة كلها في ضحكات مجلجلة، فتنفس الحضور الصعداء، ثم لم نلبث أن عدنا إلى مجريات الأحداث أو قل عادت المياه إلى مجاريها. والقصة كلها تكمن في ثقافة «يجي الخريف واللواري تقيف» بمعنى أن للشتاء أمراضه وأزماته، وللخريف علله وأمراضه، وكذلك للصيف مطباته، وهذه قصة قديمة جديدة ومرحلة، يزيد من تعقيداتها واحتدام وطأتها التدفقات البشرية الهائلة إلى العاصمة الخرطوم، «محل الرئيس بنوم والطيارة بتقوم»، فالخرطوم تتمدد في كل الاتجاهات. كنا نتحدث في هذه الجلسة عن «الحارة مائة» بأم درمان، حارة الصحفيين، أو قل «حيرتهم». الصحفيون في السودان يتوزعون بين سفوح جبل كرري بالحارة مائة، وبالوادي الأخضر على هامش مملكة البطاحين بشرق النيل، وكتر خير اتحاد السيد تيتاوي، فالصحفيون قبل تيتاوي لا مكان لهم في عاصمة الخمس نجوم وخمسة ملايين، فلئن تسكن بعيداً خير ألف مرة من أن تسكن أجيراً ومستأجراً، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن «حديث أزمة المياه»، قد تجاوز أطره التقليدية في «بيت المال وبانت والديوم الشرقية والسجانة وحي الأملاك ببحري» فذهبنا نتحدث عن أزمة المياه في العقليين وما بعد جبل الأولياء، وشرقاً نتحدث عن أزمة مياه حلة الشيخ الأمين والبياضة، فضلاً عن الحارات ما بعد المائة، والأزمة كلها تكمن في اختلال التوازن السكاني، وإذا استقدمنا من أمرنا ما استدبرنا لقلنا إنها «أزمة الحكم الاتحادي»، إنها أزمة وطن، فلا يعقل أن تخطط لأربعة ملايين مواطن وحين تكتمل خطتك تجد أن القوم، قوم الشيخ عبد الرحمن الخضر، قد وصلوا إلى خمسة ملايين قابلة للزيادة. { وبعد إضافة محطة المنارة وأخواتها، والتوسعات التي أحدثت في محطات المياه القديمة، قد قفزت صناعة المياه بولاية الخرطوم إلى مليون وأربعمائة متر مكعب، وإن سكان الولاية يحتاجون إلى مليون ومائتي متر مكعب، حسب مقاييس الأممالمتحدة في استهلاك المياه، فبرغم هذه الأزمات التي تتفجر في أكثر من مكان فإن منتوجنا من المياه يكفي استهلاكنا ويزيد، غير أن هناك قصصاً أخرى تحول دون التوزيع والانتشار الأمثل لهذه المياه، وأشهر هذه المعوقات هو الخطوط البالية، فهناك مجموعة شبكات داخل الأحياء السكنية هي من عهود «الاستبتس» التاريخية وقد تدنت درجة فعالياتها، فإنها في ساعة الندرة تنحسر وفي ساعات الوفرة تنفجر. ثم أزمة الكهرباء، فبحسب السيد مدير مياه ولاية الخرطوم فإن أربعين بالمائة من كلفة إنتاج المياه تذهب لكهربة محطات المياه وتشغيل آبارها، غير أن في الصيف تحتدم استخدامات المياه، ثم طبيعة الشعب السوداني في عدم الاقتصاد في استخدام المياه، فتجد أحدنا يتوضأ «بصفيحة مياه» ولا يبالي. مجهودات هائلة تبذل من قبل الولاية وجهاتها الاختصاصية، فنحتاج نحن كشعب في المقابل إلى «ثقافة الاقتصاد» والتبليغ الفوري عن الانفجارات والقطوعات.. والله ولي التوفيق.